قبل شهر واحد فقط، شهدت سوريا لحظة تاريخية تحررت فيها من قيود استمرت خمسين عامًا. لم تكن هذه اللحظة مجرد حدث سياسي، بل كانت انفجارًا إنسانيًا غير مسبوق. يعيش السوريون اليوم فرحة لم تعهدها البلاد منذ نصف قرن، إذ تنبض شوارع المدن بالحياة مجددًا، وتحولت الساحات العامة إلى مسارح احتفالية تُعبر عن حرية طال انتظارها. إنها لحظة تحمل في طياتها مزيجًا من الأمل والتحدي.

لم تكن العقود الخمسة الماضية مجرد سنوات استبداد سياسي، بل كانت سجنًا كبيرًا ضم كل فرد من الشعب السوري. فجأة، وجد السوريون أنفسهم خارج هذا السجن الكبير؛ أحرارًا في حركتهم، تعبيرهم، وحتى أحلامهم. هذه الحرية التي طال انتظارها كانت كفيلة بإحداث صدمة وجدانية، إذ يختلط الفرح بالذهول، وتتعاقب لحظات الحماس مع أسئلة القلق حول المستقبل.

مع التحرر، بدأت تتكشف حقائق موجعة عن المعاناة التي عاشها السوريون لعقود. قصص الاعتقال والتعذيب، الإخفاء القسري، فقدان الأحبة، ودمار المنازل والمدن باتت تروى بكل صدق.

إنها قصص تفوق الوصف، وتحمل معها دروسًا عميقة عن معاني الصمود الإنساني. هذا الألم الذي لم يُسجل التاريخ مثله من قبل يشكل اليوم تحديًا أمام السوريين في كيفية تجاوزه وتحويله إلى قوة دفع نحو البناء.

السؤال الذي يسيطر على أذهان الجميع اليوم هو: ماذا بعد التحرير؟ سوريا تقف أمام مفترق طرق تاريخي، حيث يتوجب اتخاذ قرارات مصيرية ستحدد مستقبلها لعقود قادمة. هل ستتمكن البلاد من إعادة بناء نفسها كدولة موحدة وقوية؟ كيف ستتعامل مع التحديات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية التي تراكمت على مدار نصف قرن؟

إحدى أكبر العقبات التي تواجه القيادة والشعب هي ترتيب الأولويات. البلد بحاجة إلى كل شيء: إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، بناء مؤسسات حكومية فعالة، تحقيق العدالة الانتقالية لمعالجة الماضي، وتعزيز اللحمة الوطنية بين مختلف أطياف المجتمع.

هذه الأولويات المتشابكة تجعل اتخاذ القرار مهمة معقدة، خاصة في ظل تعدد الرؤى ووجود مصالح داخلية وخارجية متباينة.

بعد كل ما حدث في سوريا، يرى الجناح المناهض للحرس الثوري، وجوب التراجع عن سياسة الدفاع المتقدم المعمول بها منذ عقود، أو على الأقل إعادة النظر فيها.

تحرير سوريا ليس سوى الخطوة الأولى في مسيرة طويلة وشاقة نحو بناء دولة تعكس طموحات شعبها.

هذه اللحظة التاريخية تحمل معها فرصة لإعادة صياغة هوية الوطن، وتعزيز قيم العدالة، الحرية، والمساواة. لكن النجاح يعتمد على تكاتف السوريين، ووعيهم بأهمية المرحلة، وقدرتهم على تحويل الألم إلى قوة، والفرح إلى دافع للعمل والبناء.

سوريا اليوم على أبواب فصل جديد، فهل ستتمكن من كتابة هذا الفصل بأيديها؟محمد سرميني

كاتب سياسيالجزيرة نت