داليا الحديدي
كاتبة مصرية
الذكريات وليدة الذاكرة، نعمتان أقل غدرًا من نعمتي الثراء والجمال. فالذكرى أكثر استدامة وأشد التصاقًا بالإنسان، فيما الثراء والجمال لا يعدوان سوى محطات يعبرهما المرء هرولة، فينزل منهما بمحطة تبديل الأحوال أو لربما يُقذف منهما عُنوة إثر حادث مباغت أو قد يسقط بفعل ضربة تأميم تطال الأثرياء فتجعلهم أحاديث لعهد مضى.
كم استعمرتني ذكرياتي مع الاسكندرية، إذ لها صدى الزوبعة في فنجان النفس من فرط تداعيها كنوّات الشتاء التي تدق على نافذة العمر فتدك أمس المرء وتحيل يومه وغده لشرود يسكنه أو ينعشه في الوقت ذاته من فرط سكرة النشوى، إلا أنه لا يمس شاهق ما بنته روحه من ذكريات مشيدة بقصور على رمال طفولته.
ذكرياتي دائمة التنبيه بأن كان لي مع عروس المتوسط قصة حب سرمدية كما بين قيس والعامرية.
الإسكندرية تلك الفاتنة المتناسقة المعالم، الشقية بالنهار، والآسرة بالليل، امرأة لم تنس يوما أنها ابنة الإسكندر وسليلة نسل عريق اختلطت فيه أمواجها بالشرق عدا كون رمالها قد تناسبت برباط قدسي مع شواطئ الغرب على مهر وقدره لآلئ البحر، مهما ثار بين المشرق والمغرب من تباعد الجزر، لأن التاريخ سطّر أن المد آتٍ لا محالة.
الإسكندرية هي امتياز للمكان كما أنها هبة الزمان للأكوان.
لطالما حققت تلك المتوسطية التوازن النفسي للمصريين حين يرتحلون لمدن الرومان فلا يهابون جلال الغرب أو عمرانهم «القوطي» كون حسن مدينتهم يعلو على سواها من أمصار العالمين.
فالأسكندرية تحصنك، فما أن تقترن بشطآنها حتى تحدثك نفسك: «أن ما عادت فتنة الغرب تعنيني»، كزوجة مكينة لدى زوجها ما استطاعت آخريات أن ينلن من حظوتها.
فالغلبة لتعرجات سواحلها الذي يحاكي خصر القيثارة. ولروعة موانيها ولتقبب صخورها وأواه من زعفرانية رمالها أو كهرمانية شطآنها، عدا بهاء مراسيها ولعبق ضواحيها وجلال معمارها ولصفوة أعلامها ولفرادة طقسها.
قبالة شطآنها تنتصب أعرق مكتبات التاريخ وفي شارعها صفية زغلول سُحلت «هيباتيا» أول امرأة لمع اسمها كعالمة رياضيات انتصرت لأبجدية العلم.
بمواجهة بحرها الهدار، وقبل الولوج لمدخلها البري، تستقبلك بعبق اليود الأّخآذ كسيدة تجيد إغوائك بعطرها أن «هئت لك» فإقترب، فتنصاع، وترمي بياض قلبك وتلبي وتدنو على أطراف رمال شواطئها فتعربد بك أمواجها وتقلبك رأسًا بلا عقب، لتعود بنهاية المطاف من السفرة وقد سُلبت روحك.
تقف مشدوهًا وأمام ناظريك الأفق مسرمدًا وشمسها الأصيل تشفق على أهل الأرض من عتمة العِشاء، فتطمئن لبحرها كما اطمئن أسلاف اليونان والرومان لكهنتها، فسكنوها واستودعوها خزائن أسرارهم ومقطوعات من قلوبهم، لتسكب بدورها عليهم من ملح بحرها ما يطهر الأحزان. فلا وربي ما هجروها إلا مُكرهين وقد اندمجوا فيها فخالطت أمواجها ذراريهم، فلا تعرف أهم أضافوا قيمة لسبيكتها الثمينة أم تراها هي من عطفت على طبيعتهم فأثرتها أصالة ونبلًأ
قلما يعي سكان تلك المدينة عظمتها وقلما يدركون الجاذبية في منطوق ألسنتهم الذي تأثر بطبيعتهم الساحلية الممتدة بمد يَمِهم حين يتعجبون بـ «أيووووووه» تماما كموجة داعبتك بقذيفة مياه يبقى زبدها بصدى يوووووووووووه.
وقالت نسوة في المدينة القاهرية: السكندرية فقدت رونقها بعد أن راودت شعوب الأرض عن أوطانهم وقد شغفوها حبًا. وكثر القيل والقال عن حسنها الذي ولّى وعن زحامها الذي تجلى، إلا أني أجدها خمرة ما زادها الزمن سوى تعتيقا.
-يزورونها هربًا من سوء طقس، بيد أني بكل خطوة أخطوها بتلك المدينة تحدثني نفسي أن على هذه الأرض مشت كليوباترا والبوصيري، وفيها عاش الطرطوشي والمرسي أبو العباس، وبها ولد الخديوي عباس حلمي الثاني، الأَميرة فوزية، توفيق الحكيم والمعماري حسن فتحي. وعلى بقاعها، كتب الشاعر كفافيس قصائده الفريدة وقائمة تطول ولا تنتهي لعظماء قدروها تقديرا.
سيظل للاسكندرية رائحة بَشرة جدتي وذكرى موقع سجدتي ووجهة فرحتي ومنتهى رجاي.