تأمل في توجيهات النص القرآني جيداً، في كل شواهد ومشاهد الخلق حول الإنسان، أنظر في قرعه المستمر إلى الحرية العقلية المطلقة، إلى الرابط بين الجسم المعقول المنظور، والعقل المعلوم بالضرورة، انتبه إلى تحريرك في حشود النص القرآني، من صورة كوكب العالم الخرافي، الذي تاه في تاريخ الأرض بالفعل، فخلق الإنسان لذاته إلهاً من جماد أو زرع أو حيوان، أو آدمي مثله، كُتب عليه الإخراج للفضلات، كما كُتب عليه ضرورة الأكل والشرب لمواصلة الحياة، ولو قفزتُ بك إلى المتحف البريطاني الأبرز في لندن، ستجد أن هذا الإله الخرافي حاضرٌ بقوة، وباهتمام بالغ في رؤية المتحف، الذي يعرضُ لتاريخ الشرق، ولكنه يُغيّب كلياً تاريخ النبوات وفلسفتها.

ثم يقفز بك إلى عام القرن السابع عشر، لانطلاقة العالم التنويري الغربي، هنا تناقض شرس في توثيق العقل (العلمي) الغربي لتاريخ البشرية، في تعظيم رمزي أو كُلي لروح الكهنة الخرافية، في حين يُسقَط تاريخ ضخم، من حضارات الروح والأخلاق، ودور النبوات فيها، وهي نبوّات وصلت رسالتها، إلى كامل الأراضي الأوربية وأميركا الجديدة.

غير أن الأمر المركزي هنا، هو أن ربط الحضارة بالخرافة ثم بالتنوير المادي، يُغيّب الركن الثالث، وهو ماذا عن حضارة العقل، التي حركها سؤال الروح؟

إنه لا يوجد خلافٌ، في أن كل منجزٍ مادي من الكهرباء إلى المعالجة النووية للأمراض الخطرة، هي مشاريع خير للحياة الإنسانية، حين تسلم من تسليعها، أو تسييسها ضد البشرية، لكن تاريخ الآلة كدلالة للتنوير الغربي، لا يوجد له معيار أخلاقي اليوم يسنده، بعد التوظيف الرأسمالي الشرس، كما أن القفز به كمنجز مطلق للحضارة الإنسانية، يُربط بأنه مرحلة ما بعد صحوة العقل، فيه فراغ وتجهيل كبير، فالحضارة الإسلامية وُلدت في هذا الدمج المهم، الأكثر انضباطاً من تراتبية العرض التاريخي للغرب، عن العالم.

فولادة العلوم في الحضارة الإسلامية، التي قدّم د. جورج صليبا، أدلة قوية على أنها منجزات مستقلة بذاتها، أو أنها حين أخذت بعض الأفكار العلمية والفلسفية طورتها تطويراً جذرياً، لكن الناقل الأرشيفي الغربي، لم يعترف بهذه الدقة العلمية، فجعل مرحلة الحضارة الإسلامية مجرد ترجمات لإرث اليونان، فسقط هنا أصل مهم للاستدلال، وهو أنها حضارة علمية نشأت وصُدِّرت في مركز أخلاقي، حضر العقل فيه بقوة، ولم يجد له حاجة في نبذ الرؤية الكونية الدينية القديمة، وانداح بكل حيوية يُبدع للعالم نظريته، ولم يكن حينها يسعى لتسييس علومه ضد العالم الآخر.

لكن السؤال هنا أي عقل كان هو الفاعل في العبور الحضاري؟

إنه من جديد العقل المعرفي الذي تدبر في خلق السموات والأرض، في حكمة الإيجاد والتشريع، وصيانة العقل من طقوس الخرافة، التي استخدمها الغرب، كبديل لتنحية التاريخ الحضاري للعالم الإسلامي، وخاصة الرابط الروحي بين عقل التدبر وحواس الإدراك البصرية والسمعية وغيرها.

إن هذا العقل المتفكر، يقوم على أصل دلالي يقيني، فهو ينظر لهذه الأكوان العظيمة، والأفلاك الواسعة، ويُنصت إلى القرآن فيجد انسجاماً، في ادراكه وفي استشعاره، بين قصة الخلق ورسالة النبوات، وبين الهدي العقلي المعرفي في الجسد والأرض وفي الفلك فلنتأمل في هذه الآيات من الوحي القرآني:

﴿وَفِی ٱلۡأَرۡضِ ءَایَـٰتࣱ لِّلۡمُوقِنِینَ وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ وَفِی ٱلسَّمَاۤءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ﴾.

وقوله تعالى:

أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ).

ثم انظر إلى التوجيه القوي لربط الكون بعقل التدبر والمعرفة:

(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).

ثم عُد لهذا النداء العقلي واستمع له بعناية:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَأوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

هذا التتابع في قرآن التنزيل، متناغم متحد مع قرآن التكوين، ومُفسرٌ للركن الغائب عن منظور البشر التجريبي، رغم أنهُ مستشعر في منظوره التدبري، وأنهُ لا مجال لتحقيق معادلة معرفة يقينية مطمئنة، دون هذا الربط، الذي يستدل به العقل المعرفي البسيط في الإنسان المتسائل، والمتمكن المستغرق في التدبر على الله الخالق وعلى مهمة انبيائه.

ومع ذالك فالقرآن يؤسس مرجعية أخلاقية وبناء فطري وتشريع عمراني، للسعادة البشرية، تُعالج كارثة صناعة الصنم المطلق للعقل التجريبي، المُنبّت عن المشاعر وعن المعرفة معاً، فهنا العقل المعرفي حجة الله البالغة المدركة في عالم الأكوان، والمتحدة مع نص القرآن.