خُلاصة الخلاصات التي ينتهي إليها زائر دمشق، إذا ما حاوَرَ الناس فيها، وهم، في العموم، ليسوا كل أهل سوريا، أن أولوية أولوياتهم، بعد الخلاص المذهل من نظام الأسد، أن تتوفّر لهم سبل العيش الطبيعي،... فرص العمل والوظائف، الدُّخول التي تحمي من الحاجة والعوز، التعليم الجيّد، خدمات النقل الميسورة، الكهرباء بلا انقطاع، الاستشفاء، السكن الكريم. يتدبّر السوريون أمورهم في توفير بعضٍ من هذا، بمغالبةٍ ومكابدةٍ على الأغلب، سيّما الفئات المتوسّطة والفقيرة منهم. الصعوبةُ ظاهرةٌ في تأمين هذه المتطلبات. يحتاج السوريُّ إلى روحٍ كفاحيةٍ في مصارعته عيشَه. وإذا ما عقّب قائلٌ يقول إن هذا الحال قد ينسحب على شعوب غير بلدٍ عربي فهذا غير دقيقٍ تماماً، بفعل التخريب الهائل الذي أحدثه نظام الأسد في سوريا، الغنيّة بإمكاناتٍ فلاحية وزراعيةٍ وصناعية ونفطية وإنتاجيةٍ كبرى، فضلا عن كفاءات أهلها وقدراتهم في مهنٍ وصناعات عديدة، وتميّز ذوي التعليم العالي منهم في اختصاصاتٍ كثيرة. وقد طاول التخريب الفادح النسيج العام للمجتمع السوري، مع إنشاء النظام طبقاتٍ طفيليةً استفادت كثيراً من السلطة وأجهزتها ومنظومات الفساد المريعة، حازت الحصّة الأوسع من موارد سوريا وحركيّتها الاقتصادية.
المعنى مما تقدّم أن السياسة في منزلةٍ تاليةٍ من مشاغل الناس ومداولاتهم ونقاشاتهم، فلستً تلحظ أن شكل الحكم الذي ستستقرّ عليه البلاد موضوعة مركزية ورئيسية لديهم. يكفي أن يكون هذا الحكم غير مخيف، يوفّر منابر القول والكلام، تكون فيه أجهزة الأمن المهنيّة موضع ثقة وتقدير، عملُها خدمة الناس وحمايتُهم، لا ترهيبهم والتجسّس عليهم ورميهم في الأقبية والزنازين وأقسام التوقيف والتعذيب. على هذا النظام أن ينهض بالبلد، أن يُسعفه، أن ينشله من قيعانٍ أخذه إليها نظام الأسد، الذي أقام جمهورية النهب المريع والاستبداد الفظيع. أن يعِد بالممكن، فلا يكذب، أن ينهمّ بالسوريين ونظافة شوارعهم ورقيّ تعليمهم في المدارس والجامعات ومعاهد التأهيل. عليه أن يُخلص لهم، يراهم مواطنين، لا هتّيفةً للتطبيل لهم في مهرجانات التصفيق «لإنجازاته».
يتوق السوريون إلى نظام حكمٍ من هذا اللون، لا يعنيهم كثيراً إن كان إسلامياً أم غير إسلامي، رئاسيّاً أم برلمانياً، يأخذُ بتعدّديةٍ حزبيةٍ أم يقيّدها. يبدو الناس، كما يلاحظ زائر عابر في بعض دمشق، غير مكترثين تماماً بأي جدالاتٍ سياسيةٍ، بشأن دستور سينكتب، أو انتخاباتٍ ستنتظم، أو حوارٍ وطنيٍّ سينعقد، بشأن أقليات وأكثريات.
موجز الدرس السوري الراهن إلحاحُ الخدماتيّ وتقدّمه على السياسي، لكن الأمريْن مرتبطان بداهة، فالموضوع السياسي في أي بلد محكوم بالتسلّطية والشمولية شديدة التأثير على التداول العام في شؤون اليومي والمعيشي. وفي البال أن سوريا، في أطوار مضت من حكم البعث الأسدي، تيسّر لمواطنيها تعليما جيدا، وخدماتٌ مُرضية، ونظاما صحيا لا بأس به، وبوفرة من المنتوج الزراعي، وبتأميناتٍ اجتماعيةٍ حمت فئاتٍ عريضةً في المجتمع، غير أن تفشّي ما تفشّى من أساليب قهريةٍ وحادّة في تسلّطيتها، وفي تجبّر أجهزة المخابرات ومصادرة المجال العام، أخذت سوريا إلى خرابٍ واسع، فكان الحلم بالخلاص من نظام الأسد.