مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل
مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
شدّدت الثقافة الغربية التي أُنتجت سياسياً وفكرياً وصُنع لها جذرٌ فلسفي لا يصمد عند النقد الأخلاقي، على فكرة الصراع الأزلي بين العرب وإخوتهم من بقية القوميات، وهذا الضخ الجديد الذي تقوده باريس، هو الأخطر منذ بدء حركة التحرر الفكري العالمي، وخاصة بعد تحالف الفكر اليساري والعالم الشرقي، في مواجهة الأساطير الضخمة الموجهة إلى عالم الجنوب، والتي تصل إلى النجاح في اختراق ضمير الفرد، وإقناعه ذاتياً، إمّا بتخلفه الجيني أو قصوره المجتمعي، العاجز عن قراءة التكافؤ البشري، وحقوق المساواة الإنسانية. ويقوم هذا المشروع على شيطنة رسول الإسلام ذاته، وحملة الرسالة من العرب الأوائل، وليس على كوارث الممارسات والثقافات العنصرية التي سادت في بلاد العرب، بينهم وبين ذوي «السحنة» السمراء منهم، فضلاً عن الفكرة العنصرية الحقيرة، التي هدمتها الرسالة الإسلامية وأعادت بعثها الجاهلية الاجتماعية، ورعتها قوى المستبد العربي القديم والجديد.
إذن الحرب هنا، ليست على إرث الممارسة وإنما على تاريخ الرسالة والرسول، وبالطبع عبر اعتناء باريس وأعضاء أنديتها الإفريقية الخاصة، وأنصح بقراءة صفحات كتاب مالكوم إكس عن هذه الظاهرة، في انتخاب شخصيات من الطبقة المسحوقة المضطهدة، لتروّج للتسامح مع العنصرية الغربية وتستدل بعجز بيئة الضحايا التي كرستها العنصرية الغربية ذاتها، وبسطتها على أحياء المعذبين من الأفارقة الأميركيين.
هذه الثُلّة من أندية القمار الفكري الفرنسي، تُنصَب لها المنابر وتعتني بها المواسم وتُفتح لها الأكاديميات، بسبب أنها تقدم للتوحش الفرنسي بشقيّه التراثي وعهده التنويري، الذي أثخن في جسد العالم الجنوبي واستعبده دولاً وأفراداً، خدمة تاريخية.
هذه الخدمة تقوم على قطع الطريق عن نضال فرانز فانون، وبقية المفكرين اليساريين فضلا عن قادة الكفاح الوطني في إفريقيا، ليتحول مطلب العدالة الفكري والسياسي، وحق الشهداء الذي سفكه في باريس بعض ساسة العرب اليوم، فيُكتم صوت الدول الإفريقية وشعوبها، وتُصدّر منابر نادي فرنسا للأفارقة الموالين لها، فيصرخ مثقفهم في كل وادٍ إن قضيتكم مع العرب وليست مع الغرب، وعداوتكم بالذات مع محرر العبيد وقامع النظام الطبقي الرأسمالي في قريش، محمد رسول الله والذين معه.
هنا نُدرك حجم الخدمة التي يؤديها نوادل الشانزليزيه الفكريون، وما أكثرهم في التجربة العربية، ليس التجربة التنويرية الحرة، التي تسلك طريق النهضة والوعي التنويري وكرامة الإنسان والكفاح الدستوري، للخلاص من إرث الجاهليات السلطانية المتعددة أكانت عربية أو غير عربية، وإنما في روح الهزيمة المسكونة في قالب مثقف مزوّر، عجز عن الاعتراف بذاته، وأنكر التقاء الرجل الإفريقي الفطري، بالرسالة الإسلامية الأخلاقية، فاتحد معها بقلبه لا بسيف المستبد.
ورغم الضخ المتطرف المنحاز الداعم للعنف، ضد المسلمين والذي يُركّز على العرب في المنابر الفرنسية، إلا أن هبّة إفريقيا السمراء ضد خطاب الرئيس الفرنسي ودعم حكومته المتعدد، لشيطنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحقير إنسانية المسلم، كانت صفعة تاريخية، على من يُراهن على نزع الرسول والرسالة من إفريقيا السمراء.
ولكننا اليوم نحتاج إلى خطابٍ صريح، لا يوجه فقط للمسلمين في إفريقيا، بل الإخوة الوثنيين والمسيحيين أيضاً، إننا اليوم معهم في مرجعيتنا أولاً على تلك المحجة البيضاء، التي بُعث بها الرسول الأمين للتحرر الإنساني وليس عبر قرون أو عهود الاستبداد.
وإن مشروع النهضة في عالم الجنوب، لا يقوم على فكرة دينية أيديولوجية ولا تدخل ولا مشارطة لإخواننا من كل دين، بغض النظر عن قرار الفرد لاختياراته العقائدية حين يسمع الفكرة وروحها، ولكن مفهوم الإسلام لدينا هنا، أننا دعاة سلام وحقوق وشركاء نهضة، وأن المرجع مقولة الصدّيق: الضعيف فيكم قوي عندي حتى (أنزع) له حقه، وإن أساتُ فقوموني.
فإن كان الصدّيق يا أشقاءنا من مسلمين وغير مسلمين، يضع لنا الدستور ويُعطي الأمة حق محاسبته، فكيف بالعرب من بعده، انقدوا ما حق لكم النقد، ولنتحد فيما اتفق عليه سيدنا بلال وسيدنا أبو بكر، ليس لدعوة دينية خاصة، ولكن لحضارة عمرانية جامعة، فطر الله بها الأرض ومن عليها، وحال بغيُ المستبد الفاجر والغرب المتوحش، دون أن نبسطها في أرض الله لكل أهلها، أحرارٌ باسم درّة عُمر، ننبذ ما بقي من سوق النخاسة الذي عطّل مقاصد الإسلام، ونحج إلى الحرية الكبرى عرباً وأفارقة.