قالوا لنا إن العلم نور. وقولهم حق. وقالوا أيضاً إن لنور العلم منارة ومنارته الجامعة. وقولهم أيضاً حق. فالجامعة تجمع كافة ألوان المعرفة وتسمح لأساتذتها وطلابها بتقديم إجابات مختلفة على الأسئلة التي تؤرق الناس. وبدون تهويل أو تهوين، أصبحت شؤون المرأة من المسائل التي تقلق الناس ذكوراً وإناثاً.
ونحن الاثنان كاتبا هذا المقال نشك في أن جانباً كبيراً من هذا القلق دخيل وليس أصيلا، مفتعل وليس صادقا، وتدفعنا إلى هذا الشك ملاحظاتنا المنتظمة حول طريقة توظيف قضايا المرأة عالمياً، لهدم وإضعاف عديد من المجتمعات وخلخلتها بدءًا من استعمالها الرخيص في تجارة المزاج، وصولاً إلى جعلها المحور الرئيسي لفكرة غاضبة أطلقوا عليها «النسوية».. المهم أن الخوف على المرأة، والخوف من المرأة أصبح شائعاً وشائكاً. وبينما أفرز الخوف منها تيارات أصولية متزمتة أساءت فهم المرأة فلم تقدر قيمتها ومكانتها في ديننا وثقافتنا، فإن الخوف عليها أفضى من بين أخطار أخرى إلى استجلاب «خبراء» أجانب إلى بعض الجامعات والمجتمعات العربية ادعين أنهن «أسطوات» في شؤون المرأة قادرات على إنقاذها من ذلك التراث الشرقي الاستبدادي الجائر. وقد جاء هؤلاء ومعهم إجابات مستوردة وضعوها عندنا بعد أن طوروها عندهم، وكأن ما عندنا لا يفرق عما عندهم.
وفي تحالف مشبوه بين مكلفين غربيين يظنون أنهم أفهم باحتياجاتنا، ووكلاء محليين يتصورون أننا لا نفهم احتياجاتنا تسللت الأفكار النسوية إلى مجتمعاتنا وجامعاتنا ثم تغلغلت ثم تغطرست ثم توحشت إلى حد أنها هرست في طريقها نظماً أخلاقية مستقرة، بل وافترست باسم النسوية النساء أنفسهن. كيف ذلك؟
ما جرى نعم هو أن النسوية أساءت للنساء بينما تزعم أنها تمثلهن. فما فعلته حتى الآن على صدر صحفنا وفعاليات منتدياتنا، وفي قرانا ومدننا وجامعاتنا وبين الأزواج في البيوت أنها زادت الأرق والقلق على المرأة ومن المرأة بدلاً من أن تحسمه وتبدده. فللنسوية منطلقات عدائية ومصطلحات ملساء منومة تحول المرأة بكل أسف من مجرد طرف في مشكلة قد تقع بينها والرجل، قد تكون هي فيها الضحية، إما إلى فاعل متمرد أو مادةً خام لصراع اجتماعي رهيب بعد أن كانت في أعرافنا العربية والإسلامية هي العنوان الأبرز للسكينة والطمأنينة.
وبعد قراءة ومعايشة وحوارات طرشان مع دعاة «النسوية» الغربيين أيقنا أن ما تعلمناه على يد أمهاتنا وجداتنا، وما غرسته الطبيعة في نفوسنا بالفطرة ورسخه الدين في خلدنا بتلقائية يظل أبقى وأنقى وأصح من فوضى الفكر والسلوك التي سببتها «النسوية» سواء للنساء أو لكل المجتمع. فالنسوية التي تعرضها تلك الرؤى الأجنبية على بناتنا تقول للمرأة باختصار:
1) أنت مضطهدة.
2) تعيشين معذبة تحت رحمة مجتمع ذكوري قبيح يكرهك بشدة. فكيف تحبينه ولماذا تطيعينه؟.
3) ثم إن هؤلاء الرجال يعتبرونك صنفاً بيولوجياً منحطاً وجنساً خُلق للمتعة ولذا فأنت في عيونهم تقلين عنهم درجات.
4) ولأنك مضطهدة تماماً كالمثليين، فعليك الدفاع عن نفسك كما أنك مدعوة إلى التحالف معهم لأن قضيتكم واحدة، قضية أقليات مقهورة وسط ثقافات ذكورية جامدة لا تتطور.
5) وعليك أن تتذكري بأنك قوية لكنهم يتلاعبون بعقلك ويغسلون دماغك ليحرموك من قوتك.
6) ولكل هذا فأنت في حاجة إلى وعي جديد.
7) ووعيك الجديد هذا لن يتكون إلا برفض الدور الذي خصوك به وأوهموك بهتاناً بأنك خلقت من أجله.
8) وليس أمامك إلا أن تكسري قيودك وتحطمي مصفوفات الأغلال التي تحرمك من ذاتك ومن جسدك وتقتل رغباتك وتسلبك استقلاليتك.
9) عليك أن تراجعي مواقفك بطريقة جذرية حتى لا تبقين أسيرة للتقاليد، وأنت قادرة بوعيك الجديد على التمرد لتقفي في وجه أي صوت يؤذيك ويحرمك من حقك المطلق في نفسك فلا تستجيبي إلا لذاتك ولا تصدقي أن مؤسسات الأسرة والزواج والتقاليد مقدسة فلا مقدس إلا رغباتك وحريتك في جسدك ومصيرك.
10) ولو تحسبين العائد من وراء تمردك بميزان الكلفة والمنفعة ستجدين أنه في تمام مصلحتك أن ترفضي كل ما جمّلوه في عينيك من صور للاستعباد تارة باسم الأدوار المقدسة للزوجة، وتارة أخرى بدعوى مسؤوليات الأمومة. هذه فقط بعض نقاط ارتكاز ينفثها التيار الراديكالي «للنسوية»، الذي حفر ونخر في مجتمعاتنا ولا يستحق إلا أن يواجه بكلمة واحدة وبمنتهى الأدب: كفى.
و«النسوية» للتوضيح، فكراً وحركة، ليست كتلةً واحدةً، وإنما تضم فرقاً متنوعة، وينقسم المروجون لها إلى مراتب مختلفة من حيث درجة التمرد والمبالغة والغضب. إلا أن التيار الرئيسي بينها يشترك في أنه يأخذ النساء، جميع النساء، من عالم الإنسان ليدخلهن إلى عالم بيولوجي خاص بهن، ضيق وأناني، يكره الرجال ويعادي التقاليد ويسخر من كل امرأة تحترم تلك التقاليد وتعمل لها حساب. مثل هذه النسوية لا تشرف أي امرأة تعيش بالفطرة كما أنها لا تمثل النساء مهما ادعت أنها تناصرهم. فهي القطب المماثل للذكورية الجاهلة، التي بدلاً من أن يعالجها حكماء الرجال والنساء معاً، جاءت تلك النسوية المستعارة من وراء البحار لتخلق في مجتمعاتنا أنثوية جاهلة عمقت الاستقطاب وشقت المجتمع إلى نصفين لا يطيقان بعضهما. لذلك فإنها أشبه بإعلان حرب يدعي بمبالغة مزورة أنه يقاتل المركزية الذكورية بواسطة تحالف بيولوجي أنثوي ومركزية نسوية مضادة. من وجهة نظرها، العين بالعين والسن بالسن والرجل أظلم.
وماذا عن المجتمع وتماسك الأسرة ومستقبل الأطفال؟ هذا لا يهم. فالأهم رغبة الأنثى ورفض فكرة «النوع»، الذي يكلفه المجتمع بأدوار تقتصر عليه. فالأنثى ليست سجينة نوع ولا سجينة دور وإنما هي سيدة رغباتها. عند هذا الحد تتعقد الأمور ولا نظن أن المخرج منها إلا بفصل النساء عن النسوية. فنساء بلا نسوية أفضل ألف مرة من نساء تحت رحمتها.
ولا يمكن لمنصف أن ينكر وجود مظالم تتعرض لها بعض، وأحياناً كثير من النساء في بلدانا العربية، إلا إن تلك المظالم لن تحل بالنسوية وإنما بالنساء والرجال معاً. فالنسوية تستدرج النساء إلى ورطة كبرى عندما تحولهن من طرف في مشكلة يجري البحث لها عن مخرج إلى مادة خام ووقود حارق في صراع ليست له نهاية. النساء بدون نسوية، سيتصرفون بشكل طبيعي، مثلهم مثل الرجال، بطريقة نفعية وعملية. أما إن استسلمن للنسوية، فسيلتزمن بأيديولوجية. والأيديولوجيات بطبيعتها صماء لا تتفاوض لأنها ترى التفاوض ضعفاً والحلول الوسط استسلاماً. نساء بلا نسوية هو المدخل لاحترام حقوق النساء لأنهن مخلوقات يعشن بالفطرة. والفطرة تقبل تحمل الواجبات كما تصر على الحصول على الحقوق. أما النسوية فتضع النساء في حالة إنكار داخل صندوق محكم الغلق من أفكار تدغدغ مشاعر «الأنا» التي فيهن بكلمات إطراء تزيد من شعورهن بعقدة الضحية لترفع منسوب الغضب لديهن فتضعهن على قمة جبل يرين الناس عند سفحه صغاراً دون أن يلحظن أن الناس يرونهن أصغر.
النسوية ليست إلا استعارة زائفة وبائسة استُجلبت من خارج حدودنا الثقافية، لم تنجح أسلمتها أو تعريبها. وهي استعارة فاشلة مثل كل الاستعارات الزائفة الأخرى كالديمقراطية والليبرالية والرأسمالية، والاشتراكية والعلمانية والبورجوازية. فجميعها لم ينبت في أرضنا ولا يقبل الاستزراع فيها. صحيح أن العرب يتوقون كغيرهم إلى الحرية إلا أنهم لم يصلوا بسبب اشتياقهم إليها ولا إلى الديمقراطية والليبرالية. وصحيح أنهم يطمحون إلى زيادة أملاكهم وربحيتهم، إلا أنهم لم ينجحوا برغم ذلك في تكوين طبقة بورجوازية حقيقية تؤسس لمنظومة رأسمالية سليمة. وصحيح أيضاً أن فيهم من يحلم بمجتمع المساواة كما هو في الفكرة الاشتراكية، إلا أنهم لم يوفروا لها أبسط الشروط.
والنساء في بلادنا لسن في حاجة إلى استعارة زائفة أخرى، لسن في حاجة إلى النسوية، وإنما في حاجة إلى إعادة اكتشاف مكانتهن في ثقافاتهن المحلية. فالنسوية مثل كل الأفكار الغربية التي تسللت إلى مجتمعاتنا وجامعاتنا ومدارسنا جزء لا يتجزأ من موجات الاستعمار الأكاديمي، التي تخطط لتشويه الوعي وتفجير المجتمعات العربية من داخلها بإثارة كل ألوان القلق وعدم الاستقرار فيها بما في ذلك القلق البيولوجي والأسري والاجتماعي.
النساء بلا نسوية سيكن بلا أدنى شك أفضل. فهن لسن في حاجة إلى استعارة زائفة ملفقة، وإنما في حاجة أكثر لأن يعرفن عن أنفسهن في ثقافاتنا المحلية، تماماً كما عرفتها أنا إبراهيم، أحد كاتبي هذا المقال، من أمي وجدتي ووجدت أبي وأعمامي وأخوالي يعاملن المرأة بحسها. فأنا لا أنسى أبداً أبي وهو يحذرني بشدة من خشونة الصبيان في مرحلة الطفولة، عندما كان يوجهني كيف أتعامل مع أختي إذ قال لي: «يا ابني كما أن في اللغة ممنوع من الصرف، ففي البيت أخت لك وهي كأي بنت ممنوعة من الضرب». وأذكر جدتي لأبي التي عنفتني في مراهقتي لمجرد كلمة عتاب عابرة قلتها بعفوية أيضاً لأختي، لكنها رأت أن الأليق بي أن أعتذر لها لأنه لا يليق برجل أن يتكلم إلى فتاة بكلمات لا تناسبهن. وأنا من جانبي فاطمة، الكاتبة الأخرى للمقال، لا تغيب يوماً عن مخيلتي شخصية النساء الجامعة للقوة والأنوثة معاً في بيئتي الأمازيغية في ريف المغرب. فقد رأيت في جدتي وعماتي عالماً لا يمكن أن يدفع المرأة أبداً لأن تكره نفسها، بل لأن تعتز بكينونتها لتعيش في عالم متوازن حيال كل قضاياها ينبني على الاستنارة والتوازن. فقد تمتعن كلهن بشخصيات واثقة من نفسها منفتحة على الآخر تأبى أن تشتبك مع الرجال في جدل بيزنطي بينما أمامهن وسائل كثيرة لإدارة حياتهن معهم. لقد كن يعملن خارج البيت مع الرجل وداخله فأثبتن أنهن رمزاً خلاقاً يجمع القوة بالجمال. رأيتهن يعملن بفلاحة الأرض وتربية الأطفال، وينهضن بكافة أعباء المنزل بصبر وكد. وكن في الوقت نفسه يجذبن شغف الرجال بهن واحترامهم لهن، ليصنعوا معاً، النساء والرجال، شراكة قوامها المودة والرحمة، وهدفها السكن إلى بعضهما بألفة وإيناس. تلك هي البيئة التي نشأت فيها بعيدةً كل البعد عن التعقيدات والإشكاليات النظرية التي قذفتها «النسويات» المستعارة في وجوهنا. يكفيني ما رأيته وعايشته بنفسي على أرض الواقع حيث النماذج العفوية البسيطة القادرة على تقديم حلول لكل ما تحتاجه المرأة، تتناغم في التئام تام مع طبيعة محيطها.
النساء في منطقتنا عليهن أن يجتهدن فلا يرتكن إلى نظريات نسوية وفدت من سياق ليس كسياقنا وتجارب ليست كتجاربنا. بيئات حطمت الكثير من روابطها الاجتماعية، ثم تعولمت فسافرت لتنشر أسلوب حياتها المحطم في مناطق جديدة من بينها بلادنا العربية. وهذا يسترعي الانتباه. فالنساء في بلادنا سيكن أفضل بلا نسوية. فلماذا يصدقن «النسوية» عندما تعدهن بسيادتهن البيولوجية والتخلص من المجتمع الذكوري، بينما هن يملكن وفق تقاليدنا الثقافية كل مفاتيح وأدوات الضبط والربط. أليس بأيديهن سلطة تربية الرجال وتشكليهم منذ طفولتهم؟ فلماذا يتخلين عن تلك الأفضلية من أجل وعد زائف يقول للأم إذا كانت أسرتك عبئاً عليك فتخلصي منها لتكوني نفسك ولتتمركزي حول ذاتك. فوحدتك أفضل من زواجـــك.
وليتعس المجتـــمع بأطفـــاله ورجاله ونســـائه لا تهتمي.
فهل تنفع تلك الوعود نساء بلادنا اللاتي اعتدن العيش بالفطرة؟ إن النساء بلا نسوية والرجال بلا ذكورية هما ركيزتا المجتمع الطبيعي الذي يجب أن نعمل على استعادته من قلب أرضيتنا الثقافية. مجتمع يعيش من كد أفكاره، يطور نفسه بنفسه من داخل تقاليده فلا ينظر إلى استعارات زائفة تحولنا إلى شعوب خائفة، بما في ذلك خوف وقلق وكراهية لا معنى له بين أصلي الكون: الأنثى والذكر.
{ دكتورة فاطمة صديقي، أستاذة التعليم العالي، متخصصة في اللسانيات وقضايا المرأة
{ دكتور إبراهيم عرفات، أستاذ العلوم السياسية، جامعة حمد بن خليفة