مع بدء دخول الهدنة حيز التنفيذ اليوم الأحد، سيلتقط أهل غزة أنفاسهم ويبدأون بلملمة جراحهم بعد مضي أكثر من 15 شهرًا على أبشع إبادة جماعية في العصر الحديث. سيكتشف العالم أن الأرقام التي جرى نشرها تباعًا والمشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام خلال أيام الإبادة لا تعبر عن حجم الكارثة، وأنها أكبر وأبشع بكثير.
أهل غزة، الذين عايشوا أهوال الحرب، ودُمرت البيوت على رؤوسهم، وفقدوا أحباءهم، وهُجروا، وجُرحوا، وشُردوا، وجُوعوا، خرجوا إلى الشوارع كبارًا وصغارًا يتراقصون فرحًا فور توارد الأنباء عن اتفاق وقف إطلاق النار، في تعبير عن حبهم للحياة رغم ما تعرضوا له من تقتيل وتدمير.
حق لأهل غزة أن يحتفلوا ويفرحوا؛ فما عايشوه من أهوال الحرب تنوء الجبال بتحمله. صمدوا أمام أطنان القنابل التي صوّبت نحوهم برًا وبحرًا وجوًا، مستهدفة كل مظاهر الحياة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فما تناقلته وسائل الإعلام وما سمعنا عنه هو جزء يسير مما سيكتشفه الغزيون أنفسهم والعالم بعد انقشاع غبار الحرب.
وفي تأكيد على وحشية الاحتلال، وأنه لا يولي أي اهتمام لقدسية الحياة، وأنه لا يزال متعطشًا للدماء، استهدف بقنابل الموت في حملة قصف عشوائية فور الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار مراكز إيواء النازحين وكل مكان ينبض بالحياة، مما أدى إلى ارتقاء عشرات الشهداء وإصابة المئات، هذه المرة، الهدف علاوة على الإمعان في استمرار القتل هو إبادة فرحة الغزيين.
سيتعرف أهل غزة على حجم الكارثة الحقيقية التي لحقت بالبشر والشجر والحجر مع بدء عودة عشرات الآلاف من المهجرين إلى مدنهم وأحيائهم ليبدأوا رحلة البحث عن منازلهم المدمرة وأحبائهم الذين فقدوا تحت الركام أو الذين ضلوا طريقهم خلال رحلة النزوح أو الذين اختطفهم الاحتلال واختفت آثارهم.
فصل جديد من فصول حرب الإبادة الجماعية سيطل برأسه، عنوانه الكبير "النتائج الكارثية للإبادة”، الذي سيعيد للأذهان رسم تفاصيلها وكأنها تحدث لتوها. حقائق مرعبة سيتعرف عليها العالم الذي وقف متفرجًا بكل صلافة ولم يقم بأي شيء يُذكر حتى للتخفيف من آثارها. سيتساءل الكثيرون: كيف استطاع سكان القطاع الصمود والبقاء في هذه الأرض التي ضجت من آلاف أطنان القنابل التي أُلقيت عليها؟
صباح سريان وقف إطلاق النار هو إيذان بانبعاث جديد لكل سكان قطاع غزة، تمامًا كما تنبعث الحياة من بين فرث ودم. إنه يوم ميلاد مجيد يسطر الصبر والصمود والتحدي. لقد واجهوا الموت الذي أحاط بهم من كل جانب برًا وبحرًا وجوًا، لم يستسلموا وتشبثوا بالحياة غير آبهين بخذلان المتخاذلين وخيانة الأقربين. صباح يوم الأحد هو التاريخ الذي يسجل البطولة والتضحية والصمود أمام أعتى آلة حرب في التاريخ الحديث، ومن خلفها ضباع تجمعوا بكل ما أوتوا من قوة لدعمها، للفتك بـ2.5 مليون إنسان لتحقيق ما أسموه «الانتصار» المزعوم.عربي 21