اندفعت «إسرائيل» في حرب إبادة جماعية على غزّة، أرادت منها جملة من الأهداف، أدناها وأقربها إلى ظنّها، هو فرض الانكسار والهزيمة والاستسلام على حركة حماس، وعموم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، فانتهجت أساليب الصدمة والترويع والقصف السجّاديّ والإزاحة السكانية والأحزمة النارية، وبنحو يزيد على الخبرة التاريخية في الصراع معها.
وأرادت بهذه الحرب، التي تنتهج الإبادة المكشوفة والمعلنة، أنّه ليس ثمّة محرمات في هذه الحرب، فطالت آلة الدمار الكاسحة معالم الحياة الحضرية والعمرانية كلّها في قطاع غزّة، دون أن تستثنيَ مرفقًا أو إنسانًا أو حجرًا أو شجرًا.
في قلب هذه الكيفية الحربية غير المسبوقة، أرادت «إسرائيل» طمس ملفّ أسراها لدى حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، بالقول المضمر، والمعلن أحيانًا، إنّ التضحيات كلّها ينبغي أن تكون محتملة ومقبولة في حرب هي موصوفة بأنّها حرب مصيرية ووجودية، وتأتي ردًّا على عملية استثنائية غير مسبوقة بدورها في تاريخ الصراع، أمعنت في كشف المحدودية الإسرائيلية المُقنّعة بالدعاية عن الجيش الذي لا يُقهَر والمُخابرات التي لا تنام.
وللتغطية على إرادة طمس ملف الأسرى، رفعت شعارًا مُعلنًا بأنّ الأسرى سيعودون بمحض القوّة العسكرية، وبالاقتران مع القضاء على حركة حماس واستئصالها.
هذا الهدف الإسرائيلي الذي كانت تعتقده الأقرب إلى التحقّق، أي فرض الهزيمة والاستسلام على حماس بقوّة النيران الجهنمية، كان الخطوة الأولى على طريق تحقيق الهدف الأكبر، الذي هو في بعده الأقصى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، كما كشفت وثيقة لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية في بداية الحرب، وفي أبعاد متوسطة وقريبة، احتلال نصف القطاع، بعد تسوية شماليّه بالأرض، سواء قُصِدَ من ذلك استئناف الاستيطان من جديد، أم تثبت القوّة العسكرية والمناطق العازلة المحمية بهذه القوّة داخل القطاع، أم إعادة هندسة القطاع سياسيًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا على عين جيش الاحتلال وبإشرافه.
في هذه الحرب، وعند الإعلان عن وقف إطلاق النار الأخير، الذي يؤسّس في منطوقه ومفهومه لإبطال هذه الأهداف كلّها من أدناها إلى أقصاها، بدا أنّ الاحتلال، كما هو متوقع، تمكن من إنجاز مستويات مروّعة من القتل والدمار وفرض النزوح، ممّا يحوّل الإبادة من فعل فيزيائيّ مؤقت، إلى بنية دائمة مستمرّة فاعلة في جماهير الغزيين وعموم الفلسطينيين.
فالنتائج على المستوى البشري من حيث أعداد الشهداء والجرحى، وما يتصل بذلك من مآسٍ اجتماعية وأوضاع اقتصادية، وعلى المستوى المادي في البنية التحتية، لا يُمكِن أن تُوصف إلا بأنّها كارثية، ولا يُمكن إلا أن تُعتبر في طليعة القراءة لهذه الحرب، وهو ما يعني أنّ هذه الكلفة هي التحدّي الأثقل، على الأقلّ، خلال العقد القادم للفلسطينيين، وفي مقدمتهم حركة حماس، التي قادت هذه الملحمة الكفاحية، ابتداء من يوم «طوفان الأقصى» مرورًا بالصمود الملحمي طوال الحرب التي طالت إلى خمسة عشر شهرًا، وانتهاءً بالصفقة التي يُفترض بها أن تفضيَ إلى وقف الحرب
لقد جاء الاتفاق المعلن، متفقًا في الجوهر مع صيغة الصفقة التي وافقت عليها حركة حماس في الثاني من يوليو/ تموز 2024، وهي في أصلها صيغة مُقدمة في أيار/ مايو من العام نفسه، ليكون أيّ تغيير حصل ما بين تلك الصيغة وهذا الاتفاق في التفاصيل وآليات التنفيذ، لا في المبدأ ولا في الجوهر.
وهو ما يعني أن يتحمّل نتانياهو، في السجال الإسرائيلي الداخلي، المسؤولية، عن جميع الأسرى الإسرائيليين الذين فُقِدوا أو قُتلوا منذ يوليو/ تموز 2024، وحتى يناير/ كانون الثاني 2025، علاوة على الجنود الذي قتلوا وبنحو مطّرد في الشهر الأخير من الحرب، لا سيما في شماليّ قطاع غزّة.
وهو ما يعني أنّ الأهداف ذات الطابع المعنوي، في أبعادها الإستراتيجية، سوف تأخذ بالتآكل، ابتداء من هذا الاتفاق، لا سيما إن وصل إلى غايته النهائية، وذلك لأنّ عقيدة «تيئيس الفلسطينيين من جدوى المقاومة»، التي عبّرت عن نفسها هذه المرّة بالإبادة، تتعارض جوهريًّا مع تراجع الاحتلال عن جملة الأهداف المعلنة، وباتفاقه مع الحركة التي دخل غزّة للقضاء عليها.
بهذا الاعتبار، يكون قد سقط هدف القضاء على حماس، وهدف استعادة الأسرى الإسرائيليين بمحض القوّة العسكرية، أو بفرض الهزيمة والاستسلام على حماس، فإذا اكتمل هذا الهدف، باستمرار وقف إطلاق النار وثباته، ونجاح المرحلة الثانية في تثبيت ذلك وإخراج الاحتلال من قطاع غزّة واستكمال تبادل الأسرى، فإنّ الأهداف الإستراتيجية الأخرى تكون قد سقطت.
وإذا كانت «إسرائيل» لم تتمكن من محو عار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإنّ كلمة الشبان الفلسطينيين الذين هم اليوم في طور الطفولة والمراهقة وقد عاشوا أهوال الحرب، هم من سيقولون كلمتهم بعد سنوات إن كانت «إسرائيل» قد تمكنت من تيئيس الفلسطينيين من المقاومة وجدواها، أم لا.
أمّا حركة حماس، فقد خرجت من هذه الحرب بهذا الاتفاق لو كتب له الثبات، وبالرغم من أنّها ستواجه مهمات ثقيلة وصعبة أعظمها الكارثة الإنسانية المفتوحة في قطاع غزّة، وارتباط ذلك بحضورها في قطاع غزّة لا سيما من حيث الإدارة، وما يتصل به من علاقات إقليمية ودولية، منها طبيعة التوازنات بعد هذه الحرب التي كشفت أيضًا محدودية محور المقاومة، فإنّها من جهة أخرى رسّخت نفسها في وجدان الجماهير حركة جادّة وصادقة قاتلت قتالًا ملحميًّا وباسلًا على نحو غير مسبوق في تاريخ الصراع كلّه.الجزيرة نت