التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 2025، سيدخل التاريخ الفلسطيني من أوسع أبوابه، يوم صمتت المدافع، وغابت المقاتلات والمسيّرات عن سماء غزة، يوم توقف شلال الدم الفلسطيني عن التدفق مدرارًا، وهدأت آلة التدمير الوحشي المنظم للشجر والبشر والحجر.
يوم خرج مقاتلو القسّام من خنادقهم ومن تحت الركام والأنقاض، في استعراض مهيب للإرادة والتصميم والتنظيم والقوة ليلتقوا بحاضنتهم الشعبية، لأول مرة فوق سطح الأرض، بعد غياب دامَ 471 يومًا من أيام الجحيم، فكان المشهد محمّلًا بالدلالات والرسائل، وفي كل اتجاه.
إنه يوم من أيام فلسطين، لن تصيبه السهام الطائشة، الطافحة بالحقد والانهزامية، بخدش أو تشويه.
الذين لن تقنعهم عباراتنا، ننصحهم، إن هم أرادوا الحفاظ على بقية صدقية وكرامة، بتفحص ما يكتب ويبث في إعلام إسرائيل، وأن
صورة الهزيمة ارتسمت على وجه نتانياهو، وفي نظراته الكسيرة، أما صوت أبو عبيدة، فجاء مجلجلًا، ممتزجًا بالعز والفخار، ينفث من تحت الرماد والركام، دفقات معنوية وثّابة تنبض بالصمود والثبات، والإصرار.
لكأني بحماس، وكتائب القسام، وقد اتخذتا من الدقائق الأولى لسريان وقف إطلاق النار، مناسبة لحسم الجدل المشتعل في الغرف المغلقة، تحت عنوان «اليوم التالي». لكأنهما أرادتا القول: نحن هنا، كنّا هنا، وسنظل هنا.
وفي مواجهة من يطالبون بغزة خالية من حماس وحكمها، تصفعهم الكتائب بتأكيدها أن غزة لن تحكم من دون حماس، فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا، نذهب إلى وفاق واتفاق، ونغلق الباب في وجه الريح الصرصر المشبوهة، وإلا فلتخرجوا من جغرافيا غزة، كما أخرجتم أنفسكم من تاريخها.
تعني الهزيمة، القبول بإملاءات العدو وشروطه، أما النصر، فلا أقل من منع العدو من تحقيق أهداف حربه وعدوانه. المقاومة تنتصر عندما تمنع النصر عن عدوها، وتُهزم إن هي سارت في ركابه، وتُستَلب، حين تكرر كالببغاء، روايته وسردياته.
منع الشعب الفلسطيني بصموده وثباته الأسطوريين، مؤامرة التهجير، فسقط الهدف الأول للحرب على غزة. وكم كان لافتًا، أن نرى الناس في مواصي غزة، يفككون خيامهم قبل دخول وقف النار حيز التنفيذ، وعيونهم متجهة شمالًا، إلى غزة وما وراءها، وليس جنوبًا إلى سيناء كما اشتهى نتانياهو، وسوّق وسوّغ بلينكن في أولى جولاته.
اتفاق وقف النار، يُرغم نتانياهو وحكومة اليمين الأكثر تطرفًا، على الانسحاب من القطاع ووقف الحرب. وقف إطلاق النار، ضمن صفقة كبرى لتبادل الأسرى والمحتجزين، سيخرج بموجبها مئات من القادة الكبار وأصحاب المحكوميّات العالية. الاتفاق فتّح آفاق الإغاثة والإيواء، وشقّ الطريق رحبًا لإعادة الإعمار.
هل هذه هي أهداف الحرب التي رسمها نتانياهو وسيّجها بخطوط حمراء سرعان ما داسها بأقدامه، أو بالأحرى، داستها المقاومة بأقدامها؟
عن أي هزيمة يتحدث القوم، خصوصًا أولئك الذين انخرطوا ذات يوم في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية؟ وكيف لهذا النفر من السياسيين والكتّاب و«الأكاديميين»، أن يصفوا اتفاق فيليب حبيب في بيروت – الاجتياح والحصار – بوصفه نصرًا نتغنى به حتى يومنا هذا، فيما اتفاق غزة الأخير، يوصف بصك الاستسلام والإذعان؟!
قراءة منصفة للحربين (1982 وطوفان الأقصى) تشير بما لا يدع مجالًا للشك، بأن الأولى على فداحتها، لم تكن سوى «نزهة قصيرة» قياسًا بحرب الأيام الـ471، ثم ماذا عن «مبعدي كنيسة المهد» في الانتفاضة الثانية، ولمن نظروا إلى الصفقة التي أخرجتهم من بلادهم، بوصفها دليل حكمة وحنكة، بينما يوصف أمر مماثل اليوم، إن افترضنا أنه مماثل، بكونه إذعانًا واستسلامًا؟ بأية معايير يقرأ هؤلاء المواقف والتجارب، وهل كل ما يصدر عن فريقهم هو الصواب بعينه، لمجرد أنهم أصحاب الحق الحصري فيه، وكل ما يخرج عن خصومهم ومنافسيهم، هو الباطل المطلق.
المقاومة لم ترفع راية بيضاء، ولم تلقِ سلاحها، وشعبها لم يثر عليها، كما تمنى كثيرون، وانتظروا تلك اللحظة بفارغ الصبر، بل خرج يهتف لها ولقادتها وشهدائها ورموزها، وتردد صدى هذه الهتافات في مخيمات اللجوء والشتات، ورددتها شعوب شقيقة وصديقة.
لن تأخذنا الحماسة ونحن نختتم فصلًا حربيًا داميًا، مكلفًا وموجعًا من دون شك، لنغفل عن رؤية التحديات والتهديدات التي تنتظرنا، ومنها احتمالات انهيار الاتفاق وعودة شبح الحرب ليطل برأسه الكريه على نساء غزة وشيوخها وأطفالها.
لكننا مع ذلك، نعتقد أن قوة الزخْم والدفع التي جاءت بالاتفاق كفيلة بنقله إلى حيز التنفيذ، وأن ترامب، المحرك الرئيس لعجلة الاتفاق، سيكون معنيًا بإيصاله إلى خواتيمه. نقول ذلك من باب الترجيح، فنحن في إقليم، وأمام عدو، وحيال رئيس، يصعب معهم الجزم وإطلاق التقديرات النهائية.
ومنها كذلك، هذا الجدل المحتدم حول من سيحكم غزة، مع أنه جدل فائض عن الحاجة لو قُيّض للشعب الفلسطيني قيادة، تتصرف بدافع الحس والمسؤولية الوطنيين، وليس بحسابات شخصية وفئوية وحزبية ضيقة.
الحل المطلوب وطنيًا، أن تبادر «المقاطعة» إلى إحياء المرجعية الوطنية العليا للشعب في إطار المنظمة، ودعوة الإطار القيادي الموحد للانعقاد فورًا من دون إبطاء، والشروع في ترجمة اتفاق بكين للمصالحة، والذهاب إلى حكومة وفاق واتفاق، تغلق الأبواب كلها في وجه سيناريوهات اليوم التالي المشبوهة، والمفصّلة على مقاسات نظرية الأمن الإسرائيلية.
مثل هذا الحل، الوطني، قمين بمنع استخدام الإغاثة والإيواء والتعافي المبكر وإعادة الإعمار، كوسيلة للابتزاز، وأداة لانتزاع مكاسب في السياسة وعلى موائد التفاوض، عجزت إسرائيل وحلفاؤها، عن تحقيقها في ساحات القتال وميادين المواجهة.. مثل هذا الحل، الوطني، بامتياز، هو الكفيل بترجمة السيادة والقرار المستقل، وتجنب الاستقواء بالخارج، وسد الثغرات التي قد تتسلل منها مشاريع التصفية.الجزيرة نت