+ A
A -
جريدة الوطن

مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، وتكشُّفِ حقيقة الفشل الإسرائيلي الكبير هناك الذي يتكلم عنه الإعلام والمحللون الإسرائيليون منذ التاسع عشر من الشهر الجاري، واستقالة إيتمار بن غفير وأعضاء الحكومة عن حزب «القوة اليهودية» والانشقاق الواضح بينه وبين حليفه سموتريتش وزير المالية الإسرائيلي وقائد تيار «الصهيونية الدينية»، ثم استقالة قائد الجيش وقائد المنطقة الجنوبية، تتوالى الأخبار لتتابع انتكاسة لم تكن متوقعةً لليمين المُتطرف في إسرائيل، وخاصةً تيار الصهيونية الدينية.

فالتراجع الإسرائيلي في غزة لم يبدأ مع إقرار صفقة وقف إطلاق النار فعليًا، وإنما بدأت بوادر الانشقاقات تظهر في معسكر الحرب في إسرائيل قبل ذلك مع تكشّف إخفاقات الحرب الإسرائيلية على غزة وظهور الفشل المريع الذي مني به الجيش الإسرائيلي هناك حتى لم يعد له أية أهدافٍ واضحة في الحرب سوى التدمير لأجل التدمير، والقتل لأجل القتل.

هذه التراجعات في تيار الصهيونية الدينية يبدو أنها تسببت في ارتدادات قوية على وحدته، بعد أن كان قد بات قاب قوسين من إمساك كافة خيوط الحكم في إسرائيل خلال الشهور الخمسة عشر للحرب على غزة.

أوّل انشقاق بين أقطاب التيار وجدناه تمثل في انفراط عقد التحالف بين حزبَي «القوة اليهودية» بزعامة بن غفير، وحزب «الصهيونية الدينية» بزعامة سموتريتش، ففيما استقال الأول من الحكومة وانسحب من الائتلاف احتجاجًا على اتفاق وقف إطلاق النار، بقي الثاني حتى لحظة كتابة هذه السطور مع التهديد بالانسحاب وإسقاط الحكومة في حال عدم استئناف الحرب، رافضًا جميع مناشدات بن غفير للانسحاب معه من الحكومة.

وبينما جنح الكثير من المحللين إلى الاعتقاد أن منبع هذا الرفض يعود إلى أسبابٍ تتعلق بمبدأ بقاء اليمين في الحكم، إلا أني أرى أن الأمر لا يتعدى المصلحة الانتخابية لسموتريتش هذه المرة، فاستطلاعات الرأي الأخيرة في إسرائيل أعطت بن غفير تسعة مقاعد في الكنيست، بينما لم ينجح حزب سموتريتش في تخطي العتبة الانتخابية لدخول الكنيست أصلًا، وبذلك نراه لأول مرة مضطرًا للتعلق بنتانياهو للبقاء في الحلبة السياسية بالرغم من تهديداته المتكررة بإسقاط الحكومة.

ويفسر هذا حماسة بن غفير للخروج من حكومة نتانياهو، وهو الذي يمنّي نفسه بأن يتم ترسيمه وحزبه زعيمًا لليمين في إسرائيل خلفًا لنتانياهو والليكود مستقبلًا، الأمر الذي يكشف لك حجم الشعبوية التي يجنح إليها حاليًا جمهور اليمين في إسرائيل، والذي بات يلهث خلف شعبويات وعنتريات بن غفير في مقابل ابتعاده عن تخطيطِ وذكاءِ سموتريتش!

في ذروة الصراع الداخلي خلال مناورات ومفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أسبوعين خبرًا حول إيداع لفافةٍ مكتوبةٍ يدويًا من التوراة في إحدى المدارس الدينية اليهودية في مستوطنة «موديعين عيليت» في الضفة الغربية (غربي رام الله) وسط احتفال كبير، وسبب الاحتفاء بإيداع هذه اللفافة من التوراة في هذه المستوطنة هو كونها مخصصة لتوضع في كنيسٍ داخلَ المسجد الأقصى المبارك بمجرد بنائه.

هذه اللفافة تبرع بها الحاخام يسرائيل إلباوم، والد شمعون إلباوم الذي يشغل منصب المدير العام لوزارة شؤون القدس التي يرأسها الوزير مائير بوروش العضو في حزب (يهدوت هتوراه) الحريدي المتدين، وهو – للمفارقة – لا يقتحم المسجدَ الأقصى ولا يدخله ويلتزم بفتوى الحاخامية الكبرى لدولة الاحتلال التي تمنع دخول اليهود إلى المسجد.

وبالرغم من ذلك، فإنه قدم هذه اللفافة لتكون جاهزةً لإدخالها إلى المسجد الأقصى عندما يحين الوقت المناسب. لكن الوقت المناسب في نظر جماعات المعبد المتطرفة وتيار الصهيونية الدينية هو الآن؛ فالحاخام شمشون إلباوم، (وهو من نفس عائلة «إلباوم»)، والذي يسمي نفسه «رئيس مجلس إدارة جبل المعبد»، صرّح بوضوحٍ خلال حفل إيداع هذه اللفافة في مستوطنة «موديعين عيليت» أن الخطوة القادمة هي بناء كنيسٍ يهودي داخل المسجد الأقصى المبارك.

وبالنسبة لجماعات المعبد التي تشكل جزءًا مهمًا من تيار الصهيونية الدينية، فإن خطوة بناء كنيس يهودي داخل المسجد الأقصى هي الهدفُ الإستراتيجي في هذه المرحلة، وهي ترى أن الشخصية السياسية التي تمثل تطلعاتها هذه، هو الوزير السابق إيتمار بن غفير، وليس سموتريتش الملتزم بموقف الحاخامية الكبرى حتى الآن.

محصلة كل هذا أن التركيز في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، سيكون كما توقعنا على القدس والضفة الغربية، في تنافسٍ غيرِ شريفٍ بين سموتريتش وبن غفير. وقد بدأ الأول بالفعل العمل في الضفة، وهو ما يحتم على فلسطينيي الضفة الغربية والقدس على حد سواء المبادرة بالتحرك ضد هذين الطرفين؛ حتى لا يستفرد كل طرفٍ منهما بقسم من الشعب الفلسطيني.

فكل دقيقةٍ تمر في انتظارِ ما سيفعله نتانياهو وسموتريتش في الضفة من ناحية، أو بن غفير وأنصاره في القدس من ناحية أخرى، هو عنوانٌ لكارثةٍ حقيقيةٍ يريد الاحتلال من خلالها تعويض فشله المدوّي في غزة، وردَّ الاعتبار لكرامة جيشه التي أهدرتها منازلُ غزة المدمرةِ وصمودُ أهلها الأسطوري.

وقد بدأ التحرك بالفعل الآن في جنين، وعلى حساب مقدساتنا الأكثر أهميةً في هذه المعركة، أي المسجد الأقصى المبارك. لا يرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشكلة في أي من هذين الطرفين، فهو يعد تيار الصهيونية الدينية كلّه حليفًا له، ولا يهمه ما إذا انتصر سموتريتش أو بن غفير. وذلك يرتب على الشعب الفلسطيني تحمل المسؤولية الأولى للدفاع عن أرضه ومقدساته بنفسه، وألا ينتظر مساندة من أحد ولا سيما إدارة الرئيس الأميركي الجديد.د. عبد الله معروف

كاتب فلسطينيالجزيرة نت

copy short url   نسخ
24/01/2025
0