خالد وليد محمود
كاتب عربي
في كل إجازة صيف، وعندما نيمّمْ وجوهنا شطر الوطن، ثمة معنىً واحد في مخيالنا لا يحتمل التأويل: اللهفة، الحنين والاشتياق. وعلى وقع هدير عجلات الطائرة الموغلة بالإقلاع بقي سؤال لحوح معلق لا يغادر الجغرافيا المجدولة بأحجية التاريخ: فكم- يا رعاك الله- بقي من العمر حتى تصل؟
في غمرة الإجابة عن السؤال تهب ذكريات تحاول أن تُطيل عمرها بأي حجّة لكي لا تنتهي لحظة، أُهيّئ عيني لتسترق النظر على جغرافيا بحجم القلب، جغرافيا لطالما ألفتها وشممت فيها رائحة المكان ولون الزمان.. وكما يقولون «هو في مثلو الوطن يابا؟»
باسترخاء تحاول الجلوس على مقعدك لتمر أمام ناظريك ذكريات تعلكها الدقائق والثواني ببطء. وبعد ساعتين ونصف الساعة من التحليق على ارتفاع 40 ألف متر ينادي كابتن الطائرة «سيداتي وسادتي أسعد الله مساءكم بكل خير.. تستعد الطائرة للهبوط التدريجي نحو مدرج مطار الملكة علياء، من أجل سلامتكم وراحتكم يرجى البقاء في مقاعدكم وربط أحزمة الأمان...».
وقتها فقط، وقبل أن توغل عجلات الطائرة بالهبوط، أستند للمقعد وآخذ نفسًا عميقًا، فتراودني دمعة تقف على جفن العين.. أرى صورة أمي وأتمنى لو- رحمها الله- تنتظرني كما كانت بكل شوق، أتلهف لرؤيتها وتقبيل يديها وجبينها لأملأ جيوبي منها بالرضا والطمأنينة..
يا الله.. كم كان السفر قبل رحيلها كرنفالا حقيقيا.. حتى للغربة رائحة وكأن المسافة التي نحلق عليها مفروشة بالشوق.
ثمة أشياء مثقلة بالحنين تأبى المغادرة حتى وإن تغيرت الجغرافيا، وما تغير هو مذاق السفر برحيل الأمهات، حيث تتداخل المسافات وتجف السماء وتتغير الفصول.. الأم هي مخبزُ الشوق واللهفة، وبغيابها يتغير كل شيء..
نعم كل شيء!