قالَ إسماعيل الغنوي، وكانَ عالماً بالأنساب: جاءَ فخرُ الدين الرازي إلى مرو، وكانَ من جلالِ القدر، وعِظمِ الذِّكر، وضخامةِ الهيبة، بحيث لا يُراجع في كلامه، ولا يتنفس أحدٌ بين يديه!وكنتُ أترددُ للقراءةِ عليه، والأخذِ عنه، فقالَ لي مرةً: أريدُ أن تُصنِّفَ لي كتاباً لطيفاً في الأنساب، لأحفظه.ففعلتُ وجئته به، فنزلَ عن كرسيه، وجلسَ على الحصيرِ حيث يجلسُ تلامذته، وأمرني أن أجلسَ على الكرسي!فأبيتُ ذلك، فنهرني وقال: اِجلسْ حيثُ أمرتُكَ!فجلستُ، وأخذَ يقرأُ في الكتاب، ويسألُني عنه، وأنا أُجيبه، فلمَّا انتهى قالَ لي: الآن اِجلِسْ حيثُ شئتَ، أما قبل هذا فأنتَ أستاذي وأنا تلميذك، وليس من الأدبِ إلا أن تجلسَ على الكرسي وأجلسُ بين يديك على الحصير! يا لتوقيرِ المعلمِ ما أجمله في هذه القصة!فخرُ الدين الرازي الذي ملأَ الدُنيا علماً في زمانه، وجدَ أن تلميذاً من تلامذته أعلم منه بالأنساب، فطلبَ منه كتاباً فيه، ولما صارَ الكتابُ بين يديه، أجلسَ تلميذه على كرسيه، وجلسَ هو على الحصير، يتواضعُ لمن يأخذُ عنه شيئاً وهو بالأساس أحد تلامذته! وكانَ سيبويه في كتاب «الكتاب» الذي أسماهُ النُحاةُ قرآن النحو، إذا عرضَ قول أُستاذه الخليل في المسألة، وأرادَ أن يُخالفه، يخجلُ أن يذكرَ اسمه تأدباً مع معلمه، فيقول: قالَ الخليلُ كذا، وقالَ بعضهم كذا، وهو الصواب!يقصدُ ببعضهم نفسه! وكانَ عبدُ الله بن عباس تُرجمان القرآن تلميذاً عند الحَبر البحر زيد بن ثابت.فركبَ زيد بن ثابت يوماً دابته، فقامَ ابن عباس وأخذ بركابها /‏ الحبل الذي تُربط فيه.فقالَ له زيد: لا تفعل هذا يا ابن عمِّ رسولِ الله!فقالَ له ابن عباس: هكذا أُمِرنا أن نفعلَ بعُلمائِنا!فأخذَ زيد يد ابن عباس وقبَّلَها، وقال: هكذا أُمِرنا أن نفعلَ بأهلِ بيتِ نبينا!يا لأدبِ التلميذ، وتواضع الأستاذ! لِينوا لمن علَّمكم حرفاً، أو شرحَ لكم آيةً، أو نقلَ إليكم حديثاً، أو أتحفكم بفائدةٍ لغوية، أو أثراكم بحكمةٍ أدبية، فهذا من الأخلاقِ الذي لا ينفع العلم شيئاً بدونه!