يقول أنس بن مالك: غابَ عمي أنسُ بن النضر عن غزوة بدر، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله غبتُ عن أول قتالٍ قاتلتَ فيه المشركين، وإن أشهدني الله قتال المشركين ليرَينَّ ما أصنعَ!
فلما كان يوم أُحد قاتلَ قتالاً شديداً، وعندما خالفَ الرماة أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم ونزلوا عن الجبل، وانكشفَ المسلمون وصاروا بين خالد بن الوليد وفرسانه، وجيش قريش الذي عادَ للقتال بعد التفاف خالد، قال أنس بن النضر: اللهمَّ إني أعتذرُ إليكَ مما فعل هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليكَ مما فعل هؤلاء، يعني المشركين.
وأُشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل، فمرَّ أنس بن النضر وهو يُقاتل على جماعةٍ من المسلمين قد توقفوا عن القتال، فقال لهم: ما يُقعدكم؟!
قالوا: قُتل رسول الله!
فقال لهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه!
ثم قاتلَ المشركين حتى استشهد، وبعد انتهاء المعركة وجدوه وبه أكثر من ثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة بالرمح، أو رمية بسهمٍ، وقد مثَّلَ المشركون بجسده فما عرفه إلا أخته بعلامة كانت في إصبعه!
وفي أنس بن النضر نزل قول الله تعالى: «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا».
إنَّ اللهَ يُحِبُّ صادقَ العهدِ معه، ليس في الحربِ فقط، وإنما في السِّلم كذلك، فالحياة في سبيل اللهِ عمل جبَّار تماماً كالموت في سبيل الله!
فإذا عاهدتَ اللهَ أن إذا أعطاكَ المالَ أن تكون كثير الصدقة، فإياكَ إن أغناكَ أن تحنث بالعهد، فإنه لا شيء أحب إليه من وفاء عبده على ما عاهده، وتذكر أن الذي أغناك بعد فقرٍ قادر على أن يفقركَ بعد غنى!
وإذا عاهدتَ اللهَ أن إذا شفاك من مرضٍ أن تكثر من الخطى إلى المساجد، وأن تثني الركب في حلق العلم وتحفيظ القرآن، وأن تحج وتعتمر، فإياك إن شفاكَ أن تحنث بالعهد، فإنه لا شيء أحبُّ إليه من وفاء عبده بما عاهد، وتذكر أن الله الذي شفاك بعد مرضٍ قادر على أن يمرضكَ بعد عافية!
وإذا عاهدتَ اللهَ أن لا تعصِه، فجاهد نفسكَ على أن لا تعصي، الذنب الذي تركته للهِ لا تعد إليه مهما كان، وإن انتكستَ فعُدْ أدراجكَ على الفور، وجدد العهد، وقل له يا رب: أنا على عهدك ووعدك، ليست إلا زلة قدم، وسوسة شيطان، وزينة نفس، فإن الباب الذي فُتح لأنس بن النضر لم يُغلق بعد، فيا لحظ الداخلين إلى الله منه!