كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم هيِّناً، ليِّناً، سَمْحاً، قريباً من الناس، وعندما سُئلتْ عائشة عن خُلقِه، قالتْ: كان خُلقُه القرآن! وقال مرةً لأصحابه محدِّثاً إيِّاهم عن أهمية الرِّفق، ولين الجانب: إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزعُ من شيءٍ إلا شانه!
على أنَّ الرِّفقَ له مواضع، والحزمُ له مواضع، ووضع الرِّفق في موقف الحزم حمق، تماماً كوضع الحزمِ في موقف الرِّفق!
عندما أراد أبوبكر الصديق أن يوصيَ بالخلافة لعمر بن الخطاب من بعده، اعترضَ بعضُ الصحابة على هذا القرار، وصارحوا أبا بكر في السبب فقالوا: إنَّ عمر كان يشتدُّ علينا وأنتَ الخليفة وهو الوزير، فكيف يصنعُ وقد صار الخليفة؟! فقال لهم أبو بكر قوله السياسي المحنك العالم بالنفوس: إنَّ عُمرَ كان يشتدُّ لما يرى من رفقي، فكان يُقوّم رفقي بشدته، وإنه إذا صار الأمرُ إليه ليكونَنَّ على غير ما عهدتموه! وصدقتْ فراسة أبي بكر، فإنَّ عمر بن الخطاب كان حازماً دون أن يفقد رقَّته، وكان رقيقاً دون أن يفقد حزمه، وهنا كان سر عظمته!
يقول زياد بن أبيه: ما غلبني معاوية في شيءٍ إلا مرة واحدة، استعملتُ رجلاً فكسرَ متاعي، فخشيَ أن أعاقبه، ففرَّ مني إلى معاوية فكتبتُ إليه: إنَّ في هذا أدب سوء لمن استعملته! يريدُ أن يقول لمعاوية إنك بحمايتك هذا الذي أخلَّ بواجبه وفرَّ إليكَ تشجيعاً له! فكتبَ معاوية إلىَّ: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة، أن نلينَ جميعاً فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتدُّ جميعاً فنحملُ الناس على المهالك، ولكن تكون أنتَ للشِّدة والفظاظة، وأكون أنا للين والألفة!
درس عظيم ليس في سياسة الدولة فقط، وإنما في سياسة البيوت أيضاً! فإذا اشتدَّ الأبوان أوشكا أن يكسرا الأولاد، ويصبح البيت كثكنة عسكرية! وإذا لانا معاً أوشكا أن يُضيعا الأولاد، ولا بد من بعض الحزم لضمان التربية! لهذا عليهما أن يتناوبا في الحزم واللين، فإذا اشتدَّ الأبُ في موقف كانت الأم صدراً حنوناً، تسمع لهم، وتخبرهم بهدوء بخطئهم، وتسعى لإصلاح الأمر، وتدبر اعتذار الأولاد من الأب وعودة المياه إلى مجاريها! وإذا اشتدَّت الأم في موقف وجبَ على الأب أن يلين، لأننا نريدُ تربية الأولاد لا كسرهم، وتقويمهم لا هزمهم!