مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل- مدير المركز الكندي للاستشارات الفكريةدعونا أولاً نلقي التحية الباذخة على ذلك المشهد الجميل في احتشاد الزوّار العرب، وأشقائهم الاتراك وبقية القوميات من الناطقين باللغة العربية في ممرات ودور معرض الكتاب العربي السادس في إسطنبول الذي اختتم الأسبوع الماضي، صورة حيّة جميلة وازدحام رائع بعد أن تفرق الناس لعامين بين أسوار كوفيد التاسع عشر.
مثل هذه المواسم التي تزدهر فيها حركة الثقافة وتنتشر فيها أمسيات القراءة، ويُنفق الناس من ميزانيتهم في سبيل الثقافة، هي مظاهر أنس وحبور، أحسبها علامة تقدم لأي مجتمع ترتفع فيه هذه الاهتمامات، ونحن اليوم في هذه المناسبة حيث الكتاب العربي التقى حشودا ضخمة من المواطنين العرب، ومن ذوي المعرفة بالثقافة العربية، في مسكن هجرتهم الجديد لظروفهم الصعبة، فعروس الشرق اليوم تتزين لهم بزي عربية حسناء، تقول للحشود أنا احتفل معكم، باسم الحضارات المتعاقبة على المدينة، وباسم الروح الإسلامية التي حضنتني منذ الأمة السلجوقية.
ولكن ما علاقة أ. توران كيشلاكجي بما أطرحه هنا؟
لمن لا يعرفه..
توران كيشلاكجي باحث تركي إسلامي، يتحدث اللغة العربية بطلاقة، ولكنه أممي شرقي عالمي إنساني، والصديق توران دائماً أردد عنه أنه من الشخصيات الفكرية المتميزة لحزب العدالة، والتي تُصّر على بقاء أذرعتها ممتدة لحاضر الشرق، وهو تنويري من طراز رفيع، يقف عند لوحة الصورة والفن وتسحره ريشتها، ويطرب للموسيقى ويتخذ فلسفة علي عزت بيغوفتش فيها مذهباً، ويطوف عند حواضر الشرق والغرب، تقوده القيم العريقة في أرض ارطغرل، دون ضجيج أو صخب الفواصل القومية.
من خلال توران تعرفتُ على نُخب تركية متعددة التوجهات، لا نشهدها في مواسم العرب المهتمين بتركيا، وإن غلب عليهم مقاربات أخي أبو عمر، هذه الردهات المختلفة لأروقة الأخوة الأتراك، بعيداً عن ميادين المقارعة السياسية ومذاهبها المتعددة، هي في الحقيقة المفترق المهم في الجامع بين حديثنا عن العزيز توران، وعن معرض الكتاب العربي في إسطنبول.
وغالباً ينشغل كثيرٌ من الناطقين بالعربية من كوادر الحزب، بمهامهم السياسية أو مشاريعهم المتعددة، مع العرب دولاً أو مهاجرين مستقرين، ولذلك نادراً ما تكون هناك ندوات بعيدة عن البرنامج المعتاد، للعلاقات التقليدية بين عرب تركيا وبين نخب أو كوادر حزب العدالة، وهذه شؤونهم وأولوياتهم، كما هي رؤية شركائهم العرب.
لكننا اليوم نواجه في الشرق أسئلة شبابية مهمة للغاية، تشمل الشباب العربي والتركي، وتدور حول قصة الدين في حياة الإنسان، في ظل تصحّر روحي شديد وقلق وأسئلة شك كبرى وصعود ظاهرة الإلحاد أو الفراغ الإيماني الشامل، الذي يُسلّم بوجود إله دون أي اعتراف بالنبوات، أو فلسفة التشريع وقيمه، وقد أكد لي توران أن الأزمة مشتركة عربياً وتركياً.
فهنا تحتاج أجيالنا إجابات ذات سعة صدر وتفهم، غالبا لا تجيب عليها منابر المساجد مع تقديرنا للدعاة والأئمة ودورهم الكبير، لكن منصات الثقافة الحرة التي تستقل عن السياسية وصخبها ضرورة معرفية لأجيالنا، لكي يدركوا فائدة الرشد الروحي والفكر القيمي لحياتهم في الإسلام، وفي ذات الوقت تحديد المعيار الحضاري لنا أمام فلسفة الغرب المعاصر، ثم يتخذوا قرارهم بعيداً عن العسف أو الإجبار.
الفارق الذي نحتاجه وأنا استدعي ذاكرتي مع أ. توران، هي حاجتنا للعبور كنخب فكرية، إن جاز لنا التسمية لهذه المساحات، ولنفتح أبواباً أخرى، يحتاجها شبابنا في كل أجيال الشرق، ونترك صخب السياسة والتداخل العثماني العربي بجانبيه، إلى مفهوم من هو إنسان الشرق الذي يجب علينا أن نمهد لفلسفة ميلاده الجديد، ولا نقف عند التصنيف السياسي، وخاصة لدى الأخوة الاتراك، فعالمهم الثقافي حيوي بغض النظر عن موقفهم السياسي مع أو اختلف مع حزب العدالة.
كما أن فلسفة التصوف وأفكار اليسار القيمي، وتاريخ الأمم المتعددة حول تركيا وفيها، يخلق مسرحاً إقليمياً ضخماً، نحن في تيار التنوير الإسلامي عرباً وأتراكاً، بحاجة إلى أن نُبحر فيه بكل شجاعة، متخذين من الحضور القومي المتعدد، سفن تواصل ووحدة أخلاقية، مؤمنة بأن العالم اليوم يحتاج إلى فلسفة الشرق الأخلاقية، حين نخرج من صراعاتنا الغبية ونكون بالفعل أهلاً لحمل الرؤية الكونية، والتي انبعث قبسها القديم حين وُلد الشرق الجديد في رحلة الأنوار المحمدية.
باحث عربي مستقل- مدير المركز الكندي للاستشارات الفكريةدعونا أولاً نلقي التحية الباذخة على ذلك المشهد الجميل في احتشاد الزوّار العرب، وأشقائهم الاتراك وبقية القوميات من الناطقين باللغة العربية في ممرات ودور معرض الكتاب العربي السادس في إسطنبول الذي اختتم الأسبوع الماضي، صورة حيّة جميلة وازدحام رائع بعد أن تفرق الناس لعامين بين أسوار كوفيد التاسع عشر.
مثل هذه المواسم التي تزدهر فيها حركة الثقافة وتنتشر فيها أمسيات القراءة، ويُنفق الناس من ميزانيتهم في سبيل الثقافة، هي مظاهر أنس وحبور، أحسبها علامة تقدم لأي مجتمع ترتفع فيه هذه الاهتمامات، ونحن اليوم في هذه المناسبة حيث الكتاب العربي التقى حشودا ضخمة من المواطنين العرب، ومن ذوي المعرفة بالثقافة العربية، في مسكن هجرتهم الجديد لظروفهم الصعبة، فعروس الشرق اليوم تتزين لهم بزي عربية حسناء، تقول للحشود أنا احتفل معكم، باسم الحضارات المتعاقبة على المدينة، وباسم الروح الإسلامية التي حضنتني منذ الأمة السلجوقية.
ولكن ما علاقة أ. توران كيشلاكجي بما أطرحه هنا؟
لمن لا يعرفه..
توران كيشلاكجي باحث تركي إسلامي، يتحدث اللغة العربية بطلاقة، ولكنه أممي شرقي عالمي إنساني، والصديق توران دائماً أردد عنه أنه من الشخصيات الفكرية المتميزة لحزب العدالة، والتي تُصّر على بقاء أذرعتها ممتدة لحاضر الشرق، وهو تنويري من طراز رفيع، يقف عند لوحة الصورة والفن وتسحره ريشتها، ويطرب للموسيقى ويتخذ فلسفة علي عزت بيغوفتش فيها مذهباً، ويطوف عند حواضر الشرق والغرب، تقوده القيم العريقة في أرض ارطغرل، دون ضجيج أو صخب الفواصل القومية.
من خلال توران تعرفتُ على نُخب تركية متعددة التوجهات، لا نشهدها في مواسم العرب المهتمين بتركيا، وإن غلب عليهم مقاربات أخي أبو عمر، هذه الردهات المختلفة لأروقة الأخوة الأتراك، بعيداً عن ميادين المقارعة السياسية ومذاهبها المتعددة، هي في الحقيقة المفترق المهم في الجامع بين حديثنا عن العزيز توران، وعن معرض الكتاب العربي في إسطنبول.
وغالباً ينشغل كثيرٌ من الناطقين بالعربية من كوادر الحزب، بمهامهم السياسية أو مشاريعهم المتعددة، مع العرب دولاً أو مهاجرين مستقرين، ولذلك نادراً ما تكون هناك ندوات بعيدة عن البرنامج المعتاد، للعلاقات التقليدية بين عرب تركيا وبين نخب أو كوادر حزب العدالة، وهذه شؤونهم وأولوياتهم، كما هي رؤية شركائهم العرب.
لكننا اليوم نواجه في الشرق أسئلة شبابية مهمة للغاية، تشمل الشباب العربي والتركي، وتدور حول قصة الدين في حياة الإنسان، في ظل تصحّر روحي شديد وقلق وأسئلة شك كبرى وصعود ظاهرة الإلحاد أو الفراغ الإيماني الشامل، الذي يُسلّم بوجود إله دون أي اعتراف بالنبوات، أو فلسفة التشريع وقيمه، وقد أكد لي توران أن الأزمة مشتركة عربياً وتركياً.
فهنا تحتاج أجيالنا إجابات ذات سعة صدر وتفهم، غالبا لا تجيب عليها منابر المساجد مع تقديرنا للدعاة والأئمة ودورهم الكبير، لكن منصات الثقافة الحرة التي تستقل عن السياسية وصخبها ضرورة معرفية لأجيالنا، لكي يدركوا فائدة الرشد الروحي والفكر القيمي لحياتهم في الإسلام، وفي ذات الوقت تحديد المعيار الحضاري لنا أمام فلسفة الغرب المعاصر، ثم يتخذوا قرارهم بعيداً عن العسف أو الإجبار.
الفارق الذي نحتاجه وأنا استدعي ذاكرتي مع أ. توران، هي حاجتنا للعبور كنخب فكرية، إن جاز لنا التسمية لهذه المساحات، ولنفتح أبواباً أخرى، يحتاجها شبابنا في كل أجيال الشرق، ونترك صخب السياسة والتداخل العثماني العربي بجانبيه، إلى مفهوم من هو إنسان الشرق الذي يجب علينا أن نمهد لفلسفة ميلاده الجديد، ولا نقف عند التصنيف السياسي، وخاصة لدى الأخوة الاتراك، فعالمهم الثقافي حيوي بغض النظر عن موقفهم السياسي مع أو اختلف مع حزب العدالة.
كما أن فلسفة التصوف وأفكار اليسار القيمي، وتاريخ الأمم المتعددة حول تركيا وفيها، يخلق مسرحاً إقليمياً ضخماً، نحن في تيار التنوير الإسلامي عرباً وأتراكاً، بحاجة إلى أن نُبحر فيه بكل شجاعة، متخذين من الحضور القومي المتعدد، سفن تواصل ووحدة أخلاقية، مؤمنة بأن العالم اليوم يحتاج إلى فلسفة الشرق الأخلاقية، حين نخرج من صراعاتنا الغبية ونكون بالفعل أهلاً لحمل الرؤية الكونية، والتي انبعث قبسها القديم حين وُلد الشرق الجديد في رحلة الأنوار المحمدية.