+ A
A -
محمد هنيد أستاذ محاضر بجامعة السوربون
لا تزال معركة الليرة التركية تتردد أصداؤها عربيا ودوليا بعد الصعود المفاجئ للعملة التركية إثر إعلان الرئيس أردوغان عن جملة من القرارات لوقف النزيف المالي ومواجهة ارتفاع الأسعار. لا يراودنا شك في قدرة أنقرة على تجاوز الأزمة رغم الضرر الاقتصادي البالغ الناجم عنها وما ترتب عنه من تعطيل للمشاريع واضطراب للدورة الاقتصادية والمالية بالبلاد.
لن تكون معركة الليرة المعركة الأخيرة التي تواجهها تركيا الجديدة بعد أن قرّرت استعادة سيادتها كاملة غير منقوصة وقطع كل أشكال التبعية للغرب وهو القرار الذي جلب لها كل المتاعب والصعوبات التي تعيشها. إن الحرب الباردة التي تخوضها تركيا اليوم إنما هي جزء من معركة استرجاع السيادة التي كانت محاولة الانقلاب العسكرية في 2016 أحد فصولها. كثيرة هي المعطيات والمستويات التي تتشابك فيها معركة التحرر التركية بعد أن كانت ترزح عقودا تحت الحكم العسكري والوصاية الأطلسية. فتركيا من جهة أولى عضو في حلف شمال الأطلسي وهي دولة قريبة من المعسكر الشرقي الذي تهيمن عليه روسيا وهي كذلك فاعل مركزي في المنطقة العربية بحضورها في أهم ملفاتها مثل العراق وروسيا وليبيا والخليج. هذا المعطى هو الذي يجعل من التعاطي مع المسألة التركية أمرا في غاية من الحساسية والخطورة.
ثم إنّ تحول تركيا إلى قوة عسكرية وصناعية يحسب لها ألف حساب هو الذي زاد من حساسية الموقف الدولي منها بعد أن امتلكت قدرات تكنولوجية وتصنيعية كبيرة. فالقوى المعادية لأنقرة لا تبحث عن الإطاحة بها بشكل قد يخلّ بالتوازنات الاستراتيجية في الإقليم لكنّه يهدف أساسا إلى إبقائها ضعيفة منزوعة السيادة فاقدة القدرة على التحرّك وحدها مثلما كانت قديما. أما القيادة التركية فقد كانت لها رؤية أخرى تستهدف الخروج كليا من الهيمنة الأطلسية وتحقيق الاستقلال التام اقتصاديا وعسكريا عن كل القوى الدولية. وهو الخيار الذي دفعت ثمنه باهظا عبر محاولات الإرباك الصلبة والناعمة المعتمدة على القوى الخارجية والداخلية. لن تتوقف هذه المحاولات إلا بعد تغير المشهد الدولي والإقليمي وخروج تحالفات جديدة تمكّن الفاعل التركي من ترسيخ موقعه العالمي كقوة دولية لا يمكن تجاوزها. بهذا تكون أنقرة قد حققت الجزء الأهم من معركتها السيادية في استعادة دورها الحضاري وفعلها الريادي كقوّة يغذيها ماض امبراطوري عظيم. إن معارك التحرر والسيادة الكبرى تستلزم من الأمم استنفار كل طاقاتها الحية لبناء الجيل القادر على وضع شروط منع العودة إلى مربّع الارتهان والتبعية وهو ما تحققه تركيا اليوم.
copy short url   نسخ
23/12/2021
1472