ارتبط تجديد حركة إعادة النشر لكتب التراث الإسلامي في الخليج العربي، بالعالم القطري الجليل الشيخ عبدالله بن إبراهيم الأنصاري رحمه الله، كان الناس في قصدهم للدوحة، أو لتلقي بريد كتبها الذي يشحن في الناقلات، يتطلعون لتلك الأحمال النافعة، ولقد كانت هذه الجهود ضمن إدارة إحياء التراث الإسلامي التابعة للديوان الأميري في قطر، والفكرة في ذاتها والمشروع، كانت مقترنة بحاكم قطر الأسبق، الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني رحمه الله. فالشيخ علي مع كونه ضمن أسرة طلبة العلم المهتمين بالتراث، وبكتب المتقدمين، كانت له عناية بالأدب والتاريخ، ومن سياق سيرته تفهم جيداً أن الشيخ علي انفتح على حقيبة العلوم الأخرى وخاصة الأدب، وبالتالي لم يكن الشيخ في تقديري يُمثل المدرسة الحنبلية التقليدية الأخيرة، وإنما كان له فضاء انفتاح خاص، أثرت فيه بيئة الساحل على نضوج الفكرة ووعيها في ذلك الزمن. وما قصدتُه هنا أن قطر ظلت تحافظ على مدرستها المذهبية، ولكن كانت هناك سعة في تلقي أفكار المدارس الأخرى، واحتواء لها، وهذا برز حتى في سيرة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رحمه الله، في نسخته التجديدية للحنبلية المعاصرة، والتي وثَّقَت رحلته فيها سيرته التي نشرها ابنه الشيخ عبدالرحمن. لقد عمل الشيخ عبدالله الأنصاري على تحويل قناعته الشخصية، وفكر الحاكم الشيخ علي بن عبدالله، على أن يكون إحياء التراث العلمي ضمن مساهمات الاجتهاد المذهبي التقليدي أو السلفي، متنوعاً ومتعدداً وهو ما دُعم بعد ذلك من سمو الشيخ خليفة الأمير الأب رحمه الله، ثم حُولت جهود الإدارة إلى وزارة الأوقاف حسب ما علمت، لقد مثّلت حركة النشر في ذلك الحين، مصباً مهماً يُساهم في تحريك المياه، في حوارات الفقه وفي خزانة الأدب، وإضافة لتلك المصادر من كتب التراث، فإن القائمة شملت كتباً معاصرة مهمة، منها كتب للشيخ المجدد د. محمد الغزالي رحمه الله. وحين نستذكر هذا المعنى اليوم فنحن نُعيد التذكير لمفهوم التعدد، في فهم التراث الفقهي وبناءً عليه المعالجة الفكرية، ومخزونها الضخم في التراث الإسلامي، وهي البوابة الثانية في مركزية فكر الحضارة الإسلامية، حيث تُمثَل الأصول الجامعة للشريعة، فمركزية النص في الوحيين، وفلسفة التشريع في كل دورات الزمن لرحلة العالم، تستفيد أيضاً مما حرره فقهاء الشريعة من أحكام وفتاوى وأقضية، ومنظومات سلوك وإدارة في الحياة الاجتماعية للمسلمين، وأن ذلك التعدد الذي احتوى بلدان المسلمين، على افتراق طباعهم وأراضيهم وأوضاعهم وأصولهم وعروقهم، إنما هو دلالة هذه الخصوبة المتوالية في قدرة الفكر الإسلامي، في وحدته الإنسانية وفي يسر فقهه للعالمين. إننا اليوم نستذكر مهمة الشيخ الجليل في ذلك الاعتناء بمكتبة التراث، ومفهوم انفتاحه، حتى أني أذكر أن بعض اتباع المدراس المختلفة، والذي كان بينها شيءٌ من الجدل والصراع، تستغرب أن ينشر الشيخ لمصدر مخالف لهم، ثم ينشر لإمام موافق لهم، إن هذا المعنى يهمنا للغاية اليوم في تحرير دور تعدد الفقه الإسلامي وتحريراته الفكرية. وأن الواجب اليوم على طلبة العلم والباحثين، ومساحة التفكير الإسلامي، المعتني بالأخلاق أو العمران أو مفاهيم النهضة في الرؤية الكونية، بل وحتى الفتاوى الفقهية الفردية، هو أن نُنحي جانباً صراعات المذاهب والعلماء، وأن نبني على مخزون العلم والاجتهادات، التي تُصلح حال الفرد والمجتمع، فضلاً عن رسالة الله في الكون وبين العالمين. إن علامة الرشد دوماً تقترن، بأولئك المعتدلين المتفهمين لظروف الناس من العلماء الذين يجمعون ولا يُفرقون، وحين تحرر المسائل العلمية بأيديهم ويطرحون خلافهم مع الآخرين يتجنبون التحريض الشخصي، أو هدم كامل عطاء ذلك الشيخ أو هذا العالم، وإن أخطأ أو جنح إلى سوء تصرف في حياته. وهذا يشمل من نُعجب به أو من يُسيطر الولاء المذهبي له، من أئمة المسلمين وعلمائهم، فهذا الشيخ أو ذلك العالم بشر ينتابه ما ينتاب الناس من غيرة وضجر، أو غضب للحظة عابرة، كما قرر ذلك الإمام الذهبي في سيره، فلا نقلده في خطئه ولا تَعصبه وبالمقابل لا نهدم أرشيف علمه وفكره بسبب زلته، ولنا مع رحلة الشيخ الجليل عبدالله الانصاري محطة قادمة بعون الله.