وقفَ أحمد بن عُروة بين يدي المأمون لمَّا عزله عن الأهواز، فقالَ له: أخربتَ البلاد، لأفعلنَّ بكَ وأصنعنَّ!
فقالَ له: يا أمير المؤمنين، ما تُحبُّ أن يفعله الله بكَ إذا وقفتَ بين يديه وقد قرَّعكَ بذنوبك؟
فقالَ المأمون: العفو والصفح!
فقالَ له: فافعلْ ما تُحبُّ أن يفعله اللهُ بكَ!
فقالَ له المأمون: قد فعلتُ، اِرجِعْ إلى عملكَ، وأحسِنْ فيه، فوالٍ مُستعطِف خيرٌ من والٍ مُستأنف!
من يقرأ سيرة المأمون يخلصُ إلى أنَّ الرجلَ قد رزقه اللهُ قدراً من الحِلم قلَّ نظيره في الناس، هو فوق الحِلم كانَ مُحِباً للعلمِ والثقافة، ولا يمنعُ مُخالفتنا إياه في بدعةِ خلقِ القُرآن من إنصافه، فهذا من تمامِ العدلِ الذي أُمرنا به!
وهذا الموقف منه تجاه أحمد بن عروة ما هو إلا حلقة في سلسلةِ ما أُثِرَ عنه في الحِلم!
غير أني وإن كنتُ أرى أن هذا الموقف من مواقفِ الحِلم، إلا أنه حِلم في غير موضعه! ليس لأني ضد أن يُعطى الناس فرصة ثانية ليُصلحوا ما أفسدوه، ولكن لأنَّ المناصبَ العامةَ يختلفُ التعاطي فيها عمَّا هو الحال عليه بين الناسِ أنفسهم!
فأنا أغفرُ لصديقٍ زلَّته، وأرى هذا من مكارمِ الأخلاق، ولكني لو كنتُ حاكماً فإني أعزلُ الوالي المُسيء ولو اعتذر، لأنَّ فساده طالَ الناس، أما ندمه وتوبته فبينه وبين ربه!
تُعجبني جداً سياسة عُمر بن الخطاب في التعاملِ مع الوُلاة، حيثُ كانَ يعزلُهُم عند أولِ شُبهة، لأنه كان يكرهُ الشقاقَ بين الوالي والرعية، لهذا عزلَ سعدَ بن أبي وقاص من الكوفة، ليس عن تُهمةٍ وإلا ما رشَّحه لاحقاً ممن يكونُ منهم الخليفة بعده، ومقامُ الخِلافةِ أعلى من مقامِ الولاية!
وكانَ عُمر كثيراً ما يقول: أن أعزلَ كل يوم والياً عادلاً خيرٌ من أن أُبقي على ظالمٍ يوماً واحداً!
في المناصبِ العامةِ يُمتحنُ المرءُ مرة، فإن أساءَ عُزِلَ إلى غيرِ رجعة، أمَّا بين الناس فالصفح، والتغافل، والتغاضي لا بُد منه لتستمر الحياة!