لا تزال هذه العبارة على لسان سيدي الوالد رحمه الله، تقرع مسامعي في ذكريات الزمن الجميل: مهنّا.. سم ابوي هات التقويم إن شاء الله وأول ما أحضر التقويم القطري يبادرني: شيقول الشيخ الأنصاري.. وهكذا نستأنف الرحلة الدورية مع والدي حيث كان التقويم القطري، مصدر حسابات الفلك في ساحل الخليج العربي، لتطابق مداراته الفلكية، فالشيخ عبدالله الأنصاري في قطر، ود. صالح العجيري من الكويت رحمهما الله، هما الأشهر في المنطقة الساحلية، وكان التقويم هو ضابط معرفة أوقات الصلاة وإمساكية رمضان، لكنه أيضاً كان مصدراً مهماً لمتابعة أحوال المدارات الفلكية للطقس، ودخول النجوم ومعرفة شدة القيظ ونجوم الشتاء والمربعانية، ثم ما يضيفه الشيخ من لطائف وحكم وسنن يذكر بها القراء. عرفتُ الشيخ عبدالله الأنصاري في زياراتنا الدورية للدوحة، لقربها من الأحساء وعلاقة الشيخ بالحركة العلمية فيها، كان الشيخ رحمه الله موئلاً للزائرين من أصدقائه وأهل معرفته، كريم الاستقبال والضيافة، يتردد عليه الناس من الحجاز ومن ضفتي الخليج العربي، كانت هذه الذاكرة راسخة عنه في ذهني مما أسمعه عن سيرته وأهل بيته، وخاصة من علماء الأحساء وطلبة العلم فيها. وللشيخ علاقة خاصة بالمنطقة، لكونه أحد الطلبة الذين أقاموا فيها، والتحق مدة بمدارسها الشرعية، وخاصة أن المدرسة الشافعية في الأحساء تعتبر من أهم معاهد الإقليم العلمية، وحافظ الشيخ الجليل على حبله المتين مع العلماء، وتجاوز في وفائه الواجب إلى الإحسان، وكنتُ كما بقية الأقارب نحب أن نتابع دروسه في تليفزيون قطر. لكن للشيخ رحمه الله ذاكرة أخرى مع ما وثق عنه من احتسابه في الدعوة ومبادرته للخير، وتعقب أمور ذوي الحاجات، فلقد مثل مدرسة من التواضع النادر، وفي الحقيقة أن ذلك الزمن شهدنا فيه ما يسمى روح العلماء، أو ما يسميه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه (مشامة الصالحين) ويقصد به، أن جلوسك إلى العلماء والصالحين، يمنحك خُلقاً بالتطبع منهم وأدبهم، وأن تنعكس فيك الأخلاق قبل، أن تزهو بعلمك، وخاصة حين يفيض بين الناس مشيخة الكتاب والدليل، وازدراء طلب العلم بين العلماء، أو حين ينزع الشاب الغر، إلى روح الجدل والتباهي في الفتوى، قبل أن يحقق المسألة وهو خائف مضطرب من مسؤولية الفتوى، وهذا بالضبط ما وجدناه في جيل الشيخ الأنصاري. ولا أزعم مطلقا أن ذلك الجيل في الخليج العربي، أو غيره كان منزهاً أو لم يكن بين صفوفهم من همه المال والمصلحة، فهذا سياق خطر تكرر في عهود الأمة، لكن العلماء الصالحين كثفوا فينا مخافة الفتنة من كونك طالب علم، تهوي بالفتوى على الناس وهو يهدف إلى فرض عصبيته أو خدمة مصالحه، ولذلك كنا نسمع منهم دوماً هذا البيت: وعالم بعلمه لم يعملن معذبٌ من قبل عباد الوثن.. والمقصد هنا خطورة استخدام العلم في غير موضعه، والتسوق به، أو التوقيع عن رب العالمين، وهو يحرر مسائل التحريم ويحللها لنفسه. لقد دخل الشيخ الأنصاري على حلقة العلم لأحد أصدقائه علماء الأحساء، وأصر أن يجلس في آخرها ورفض أن يتحول لمجلس آخر، أو أن ينصب له منبرٌ للحديث رغم إصرار رفيقه، لقد عهدنا في ذلك الزمن خلق تدافع الفتوى والحذر من التحريم، دون دليل أو القطع في المسائل دون يقين، وما يهمنا هنا هو أن أولئك العلماء رحمهم الله، اعتنوا بالتهذيب الأخلاقي، وبمنح مساحة للسائل وبفهم ظرفه. وأنا اتحدث عن مدارس سبقت انتشار الصحوة الخليجية، وبسطها ثقافتها ونفوذها على الجميع، ليس لإدانة كل فكرها ولا لرفض جهودها، ولكن نبرة الاستعلاء على الناس والأفراد كانت تصعد بقوة على مشاعر الناس وتستفزهم، في المقابل أدركنا من شيوخنا رحمهم الله، تلك الروح المهذبة المؤدبة، والتي اليوم نحتاج إلى أن تتعزز في طلبة العلم، لأن المسؤولية أكبر، فما يغشى المجتمعات من أسئلة الفتن الكبرى، بينهم وبين أولادهم. ومساحة العولمة والتيه الوجودي للشباب، ودوافع الانحرافات المتعددة، تحتاج قبل العلم والفتوى إلى منهجية التقويم الأخلاقي لطالب العلم، الذي يفقه الواقع وضرورات الظروف، وحال المستفتي ليقوده إلى بر الأمان، كما كان للشيخ الأنصاري زمنه رحمه الله فإن لزماننا اليوم، ظروفا أصعب وأكثر تعقيداً، نحتاج فيها سفراء خير للشباب والمجتمعات من طلبة العلم الكرام.