المهدي مبروكوزير سابق للثقافة في تونسيمثل الاحتفاء بالأعياد الوطنية إحدى الشعائر السياسية الحديثة التي ابتكرتها الدولة الوطنية، والتي تخلصت، بموجبها، تدريجياً من الاحتفاء بالطقوس الدينية أو الأحداث الشخصية المرتبطة بسيرة الملوك والأباطرة فحسب، لتصبح الأعياد، في جلها، مدنية، ما يدعم مشاعر الهوية الوطنية المشتركة، وتغذية الذاكرة الجماعية بأحداث تاريخية موحدة للجماعة الوطنية.
تمارس الأنظمة السياسية في ذلك ما تسمى سياسات الذاكرة، إذ لم تخل هذه السياسات، حتى في معظم الأنظمة الديمقراطية، من انتقاء وتوظيف، وفقاً للثقافة السياسية المتبعة والسياقات، لذلك تختفي أعياد وتُضاف أخرى، ويظل بعضها قاراً وثابتاً، غير أن اللافت للانتباه أن استقلال تونس لم يثر جدلاً بشأن حيثياته والتباساته، كالذي أثاره بعد الثورة، وتحديداً خلال السنة المنصرمة، لأسباب عديدة، لعل أهمها:
- حرية التعبير التي جعلت النقاش العمومي متاحاً للمواطنين في جميع المواضيع، من دون ممنوعات؛ إذ ما كان لهم، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، أن يخوضوا في هذه المسائل، لولا مناخ الحريات التي منحته الثورة للجميع، بمن فيهم لخصومها.. يكتب المؤرخ، جاك لوغوف، في كتابه «التاريخ والذاكرة» أن ذلك «يشكل علامة على دمقرطة الذاكرة والنزوع إلى تجنب فرضها فرضاً على الجماعة الوطنية».
وهذا النقاش، الحاد أحياناً، بشأن ملابسات الاستقلال وحيثياته علامة على دمقرطة الذاكرة الوطنية.
- صراعات الحاضر بكل كثافته، وهي مركبة ومترابطة، لا علاقة لها حقيقة بالاستقلال، وأن تعود إليه وتستثمره لإيجاد نوع من الشرعيات والتسويغات التاريخية لحقائق اليوم، وليس لحقائق الأمس. ويبحث بعضهم لهذه الصراعات عن امتدادات: صراعات العروبيين مع الفرنكوفونيين، الحداثيين مع التقليديين، النظام القديم مع النظام الجديد، وكلها تتغذّى من صراعات أخرى، لا علاقة بحدث الاستقلال. غداً الاستقلال في هذا كله إحدى مواد الصراعات وأدواته، من أجل تعزيز المواقف وتغذية الصراع، لقد تمت دعوة الماضي لحسم خلافات الحاضر، فلم يسلم الاستقلال من هذا التمشي، بل غدا مادة للصراع السياسي بين الفرقاء.
- صراعات العدالة الانتقالية التي غذت الصراع حول الاستقلال. ومعلوم أن قانون العدالة الانتقالية ينص على فترة زمنية، طويلة نسبياً، تمتد حسب الفصل 17 من القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية، بين الأول من يوليو 1955 إلى حين صدور هذا القانون، أي 31 ديسمبر 2013. وأعتقد أن الخلافات التي شقت مكونات الحركة الوطنية وأجنحتها (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي تم اغتياله لاحقاً والبورقيبيين المتهمين بالتنكيل بهم تحديداً)، هذه الصراعات المبكرة كانت وراء اندلاع هذا الخلاف الحالي.
وإن عدنا إلى الصراع الذي دار بشأن الاستقلال في السنوات الأخيرة التي تلت الثورة، لوجدنا أنه امتداد لثلاثة أنواع من الأطروحات، بقطع النظر عن تماسكها وصدقيتها وسلامتها، ولكنها تظل أطروحات متداولة عبر فضاءات الجدل العمومي، وهي تقريباً:
الأطروحات الإنكارية للاستقلال: كانت موجودة حتى قبل الثورة لدى فصائل عديدة من الحركة الطلابية القصووية التي كانت تنكر على البلاد استقلالها، وتعتبر الاستقلال مؤامرة، وأن البلاد مازالت خاضعة لاستعمار، اقتصادي سياسي لدى اليسار، وثقافي سياسي لدى العروبيين والإسلاميين. لم يكن يثير يوم 20 مارس (عيد الاستقلال) أي مشاعر اعتزاز ونخوة لدى شرائح عديدة من النخب السياسية المعارضة، بل على خلاف ذلك، كانت فصائل طلابية عديدة، وحتى شعبية، تعتبره ذكرى سيئة.
{ عن (العربي الجديد)
تمارس الأنظمة السياسية في ذلك ما تسمى سياسات الذاكرة، إذ لم تخل هذه السياسات، حتى في معظم الأنظمة الديمقراطية، من انتقاء وتوظيف، وفقاً للثقافة السياسية المتبعة والسياقات، لذلك تختفي أعياد وتُضاف أخرى، ويظل بعضها قاراً وثابتاً، غير أن اللافت للانتباه أن استقلال تونس لم يثر جدلاً بشأن حيثياته والتباساته، كالذي أثاره بعد الثورة، وتحديداً خلال السنة المنصرمة، لأسباب عديدة، لعل أهمها:
- حرية التعبير التي جعلت النقاش العمومي متاحاً للمواطنين في جميع المواضيع، من دون ممنوعات؛ إذ ما كان لهم، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، أن يخوضوا في هذه المسائل، لولا مناخ الحريات التي منحته الثورة للجميع، بمن فيهم لخصومها.. يكتب المؤرخ، جاك لوغوف، في كتابه «التاريخ والذاكرة» أن ذلك «يشكل علامة على دمقرطة الذاكرة والنزوع إلى تجنب فرضها فرضاً على الجماعة الوطنية».
وهذا النقاش، الحاد أحياناً، بشأن ملابسات الاستقلال وحيثياته علامة على دمقرطة الذاكرة الوطنية.
- صراعات الحاضر بكل كثافته، وهي مركبة ومترابطة، لا علاقة لها حقيقة بالاستقلال، وأن تعود إليه وتستثمره لإيجاد نوع من الشرعيات والتسويغات التاريخية لحقائق اليوم، وليس لحقائق الأمس. ويبحث بعضهم لهذه الصراعات عن امتدادات: صراعات العروبيين مع الفرنكوفونيين، الحداثيين مع التقليديين، النظام القديم مع النظام الجديد، وكلها تتغذّى من صراعات أخرى، لا علاقة بحدث الاستقلال. غداً الاستقلال في هذا كله إحدى مواد الصراعات وأدواته، من أجل تعزيز المواقف وتغذية الصراع، لقد تمت دعوة الماضي لحسم خلافات الحاضر، فلم يسلم الاستقلال من هذا التمشي، بل غدا مادة للصراع السياسي بين الفرقاء.
- صراعات العدالة الانتقالية التي غذت الصراع حول الاستقلال. ومعلوم أن قانون العدالة الانتقالية ينص على فترة زمنية، طويلة نسبياً، تمتد حسب الفصل 17 من القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية، بين الأول من يوليو 1955 إلى حين صدور هذا القانون، أي 31 ديسمبر 2013. وأعتقد أن الخلافات التي شقت مكونات الحركة الوطنية وأجنحتها (أنصار الزعيم صالح بن يوسف الذي تم اغتياله لاحقاً والبورقيبيين المتهمين بالتنكيل بهم تحديداً)، هذه الصراعات المبكرة كانت وراء اندلاع هذا الخلاف الحالي.
وإن عدنا إلى الصراع الذي دار بشأن الاستقلال في السنوات الأخيرة التي تلت الثورة، لوجدنا أنه امتداد لثلاثة أنواع من الأطروحات، بقطع النظر عن تماسكها وصدقيتها وسلامتها، ولكنها تظل أطروحات متداولة عبر فضاءات الجدل العمومي، وهي تقريباً:
الأطروحات الإنكارية للاستقلال: كانت موجودة حتى قبل الثورة لدى فصائل عديدة من الحركة الطلابية القصووية التي كانت تنكر على البلاد استقلالها، وتعتبر الاستقلال مؤامرة، وأن البلاد مازالت خاضعة لاستعمار، اقتصادي سياسي لدى اليسار، وثقافي سياسي لدى العروبيين والإسلاميين. لم يكن يثير يوم 20 مارس (عيد الاستقلال) أي مشاعر اعتزاز ونخوة لدى شرائح عديدة من النخب السياسية المعارضة، بل على خلاف ذلك، كانت فصائل طلابية عديدة، وحتى شعبية، تعتبره ذكرى سيئة.
{ عن (العربي الجديد)