منذُ فترة حرصتُ على مراجعة التراث العالمي الجنوبي، الذي يشمل شركاءنا في الشرق وأمم الجنوب المتعددة، كان الحافز الفكري المهم لنا هنا، هو تراكم عمليات التزوير التي يُعيد تدويرها الغرب، وتتلقاها منظومات ثقافية شرقية أو جنوبية صُنعت تحت عقله الكولونيالي، فأضحت لا ترى إلا من عدسته المنحازة، وبناءً عليه ذات العالم الحداثي المتطرف الذي يقود القرية الكونية للهاوية، هو من يوقد الحرب بين هذه الأمم وبين المسلمين.وفريق آخر من هذه الأمم مع تقديسه للذات الغربية، أضحى من خلال كونه من المهاجرين إلى الغرب، أو عضوا في التيارات العنصرية الشرقية المتصاعدة، يهتف في مدرجات اليمين العنصري الغربي، لتأييد حروبه ضد المسلمين، والقرارات والقوانين التي تَصدر في الغرب ضد المسلمين، لكي يحظى بموقع الدلال والمواطن الموالي للغرب ذي الأولوية، الذي يَعزف على قلق المركز الدولي من أي بقاء أو عودة لروح الإسلام، وخاصة الروح الفكرية.وهي روحٌ تتمثل في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} قرن الله عز وجل الحروب بالفساد الشامل، ونحن نضع الآية الكريمة في دلالة عموم اللفظ لا خصوصية السبب، كجسر يجمعنا مع كل العالم، فعهد الله الذي بُعث فينا، هو أن علاقتنا مع الأمم والشعوب، شُرع في أصله للتعارف والتعاون، {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} وليس للتنابذ والتحارب.لكن ما يجري اليوم هو ترويج رواية مزورة، تسعى لتحميل المسلمين مسؤولية الفشل العالمي الأخلاقي، الذين هم ضحاياه، والأخطر من ذلك تثبيت صورة نمطية، على أن المسلمين أمة غزو وأن الرسالة الإسلامية كذلك، وأنها تقتلع حضارات العالم الأخرى.ولا يوجد بالمقابل قراءة مستقلة تستمع لها أمم الشرق والجنوب، عن قصة الفكرة الإنسانية والهداية الروحية، التي جعلت شعوباَ عديدة تنطلق بذاتها لهذا الدين وتتخلى عن معتقداتها القديمة، لكون أن الإسلام كان حالة إنقاذ لها من دورات حياة عبثية، يُهيمن عليها أفق الأساطير والخرافات، وتعتمد في آمال العوام والنخب، على رؤى صنعت من ذلك التاريخ القديم، الذي سُطّرت فيه تلك الأساطير دون تمحيص ولا نقدٍ ولا تحقق، ثم إن تلك الأسطورة أو الخرافة، وهي تسمى كذلك حتى في متاحف الغرب عن مستعمراتهم السابقة، ولا يجدُ الزائرون من إخواننا من تلك الأمم حرجا في ذلك، ولكنها توضع في مقام متحف مزين لتعجب الإنسان الغربي واستمتاعه.أما الإسلام فحتى حين يحاول الغرب، إلغاء حضارته أو أثره العمراني على الناس والجغرافيا، فإن تجاوز حضوره الفكري، يبقى وهماً، ولذلك كان الإسلام مادة مقاومة فكرية ومادية معاً للزحف الغربي، رغم الحسم العسكري لصالحه، ومآلات حاضر العالم المسلم وتخلفه المعاصر، فمادة الإسلام الروحية والفلسفية، وآثار منظوماته الأخلاقية على الشعوب المتحولة له، يبقى تحدياً تاريخياً قائماً، لم يستطع الغرب هزيمته حتى اليوم، رغم كل القوة التي سخرها منذ انتصاره في الحرب العالمية الثانية، ومنذ هيمنة حضارته العلمية على العالم.إننا هنا نعيد التذكير بواقع تلك الأفكار تحت مبدأ واضح، يُحدد ماهية الإنسان وهدفه في الوجود، وأثر الشرائع التي يعتنقها في قوة عقله وصحة جسده، وسلامة بيئته وسكينته الاجتماعية، وهي الحقيبة التي كان يستشعرها أبناء أفريقيا، وآسيا وأطراف أوروبا وأميركا اللاتينية، ومن وصلهم الإسلام في قلب الغرب واختاروه، وهو هنا المفصل الذي يجيب عن السؤال الكبير، لماذا لم تعبر هنا فكرة محاكم التفتيش، ولا جُمع الناس وقهرهم لأجل الدخول في الإسلام، رغم أن ذلك لا يبرر ولا يلغي جرائم ارتكبها زعماء مسلمون، أو جنايات لجيوشهم انحرفوا فيها عن المركز الأخلاقي الإسلامي.كل ذلك لا يعني أن نُضلّل الرأي العام من المسلمين ولا غيرهم، عبر تقديم صورة ذهبية عن تاريخ الأمم المسلمة، فذلك مرتبط بإشكالية عميقة وهي انحراف المسلمين ذاتهم، عن أخلاق الرسالة وعن تشريعها العمراني في الحياة الدنيا، فسقطت رحلتهم في محطات صعبة.لكن ذلك لا يُبرر تغييب الحقيقة الكبرى، أن الشريعة الإسلامية، التي تهتم بها بعض المناهج الأخلاقية في الأكاديمية الغربية اليوم، أتت بفجر جديد لإنسان تلك الأمم، في ذاته وفي تقدم بيئته ومجتمعه، حملته إلى نظافة روح وجسد، ووضوح رؤية عن موقعه في العالم، فانشرح لها قلبه ورأى في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، منار إنقاذ في الدنيا قبل الآخرة.