+ A
A -
لا يمكن إرساء سلام عالمي ودائم إلا إذا كان قائمًا على العدالة الاجتماعية، إنها الوسيلة الأهم لحماية المجتمعات وتمكينها وضمان الأمن والسلم الدوليين تاليا، ولأهميتها فقد تناولها حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، في كلمته أمام منتدى الدوحة في دورته العشرين التي تعقد تحت شعار «التحول إلى عصر جديد»، أمس.

العدالة الاجتماعية، كما أوضح سموه، هي صمام الأمان الحقيقي للمجتمعات، وغيابها أدى إلى الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الدول، وفي المجتمع الواحد، وإلى خلل جسيم في الاقتصاديات الكلية، ولا سيما بعد تعزيز قطاع التكنولوجيا ودوره في الاقتصاد وحياة الأفراد. هذا بالإضافة إلى الزيادة المرعبة في معدلات الفقر العالمي، وصعوبة الوصول إلى مقومات الحياة الأساسية والتدهور إلى المجاعات في بعض الحالات.

لقد أصبحت العدالة الاجتماعية في صدارة المناقشات السياسية، وفي ذلك إشارة جلية إلى الحاجة إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية عميقة، وإلى إعادة النظر في نموذج التنمية السائد لوضع العدالة الاجتماعية والمساواة والمشاركة في صميم التفكير التنموي.

وعندما يتحدث صاحب السمو عن هذه المسألة الجوهرية، إنما يعيد هذه القضية إلى الصدارة مرة أخرى، باعتبارها الأساس المتين للرخاء والازدهار، وتاليا الأمن والاستقرار في كل المجتمعات، وفيما بينها أيضا، لذلك تناول سموه، حفظه الله، الظواهر الإقصائية التي أخذت تتصاعد في السنوات الأخيرة، ومن هذه الظواهر الإسلاموفوبيا، التي تتعارض مع كل قيم العدالة، داعيا إلى وقفة حازمة وجادة ضدها، كتلك التي شهدها العالم في الوقفة ضد التمييز العرقي، وضد العداء للسامية، مع الملاحظة المستحقة والهامة التي أوردها سموه في كلمته، حيث باتت تهمة العداء تُستخدَم على نحوٍ خاطئ ضد كل من ينتقد سياسات إسرائيل، الأمر الذي يضر بالصراع ضد العنصرية والعداء الفعلي للسامية.

لا تقدم دون عدالة، ولا ازدهار ولا أمن أيضا، وما يشهده العالم اليوم يؤكد على أن العدالة من شأنها كسر جميع حواجز الكراهية والعنصرية والتخلف، لذلك لم يكن غريبا على الإطلاق أن تكون هذه القضية في صلب كلمة صاحب السمو، وهو يتوجه إلى الحضور من رؤساء ورؤساء حكومات ووزراء ومسؤولين وأكاديميين وصناع سياسات وبرلمانيين ومفكرين ورجال أعمال ورجال الإعلام وممثلي المنظمات الإقليمية والدولية ومنظمات المجتمع المدني، الذين يشاركون في أعمال منتدى الدوحة، هذه المنصة التي أطلقتها قطر منذ اثنين وعشرين عاما لتكون ملتقى لصناع القرار والخبراء والإعلاميين من منطقتنا ومن كل أنحاء العالم، والتي، كما قال صاحب السمو، فتحت الطريق لنشوء العديد من المنابر والمنصات التي انطلقت بعد ذلك في منطقتنا.

كلمة صاحب السمو، جاءت في وقت عصيب يمر به العالم، حيث النزاعات على أشدها، والأبرياء من المدنيين العزل يدفعون ثمنها الأكبر، عالم اليوم كما قال صاحب السمو، «وصل إلى مرحلة مفصلية على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وهذه المرحلة تتطلب مراجعات جذرية، قبل أن يصل العالم إلى حالة من فقدان التوازن»، وما نشهده من تطورات ينبئ بأن ما يعيشه العالم هو الأسوأ على الإطلاق، وهل هناك ما هو أسوأ من الحديث عن حرب عالمية ثالثة، سوف تكون الأسلحة النووية في صلبها؟

من هنا جاءت كلمة سمو أمير البلاد المفدى معبرة عن هواجس العالم بأسره، حكومات ومجتمعات، فلا شيء أسوأ من الحروب، ولا شيء أبشع منها، فكان أن حظيت الحرب التي تشهدها أوكرانيا بمساحة أساسية في الخطاب السامي، أمام قادة ومسؤولين وأكاديميين عالميين من المؤمل أن يكون لهم دورهم في صياغة بديل سياسي ودبلوماسي من شأنه وحده مواجهة التمدد العسكري والحلول المسلحة، التي أوضح سمو الأمير أنها وصلت إلى واحدة من أصعب ذرواتها في العقود الأربعة الأخيرة في الحرب الأوكرانية، التي نشهد فصولها المؤلمة، دون أن تلوح في الأفق أي مؤشرات على أنها ربما تنحسر أخيرا لصالح الحلول الدبلوماسية.

لم يكتف صاحب السمو بالتحذير من نتائج هذه الحرب فحسب، إنما قدم للحضور وللعالم ما يجب أن تكون عليه الأمور، مع تغير المعادلات التي استقرّ عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانيـة، وبعد انقضـاء الحـرب البـاردة، عبر السؤال الهام الذي طرحه على الجميع، وخاصة الدول الكبرى، عن ماهية العالم الذي نريد أن نورثه لأبنائنا؟

كما لم يكتف سموه بطرح التساؤل الأهم اليوم، بل قدم الإجابة الموضوعية والمنطقية أيضا: «لا بدّ أن نعمل على إعادة تشكيله لصالح الإنسانية جمعاء؟ هل ستجيب الدول الكبرى على هذا السؤال بالقتال بعد التنافس على تطوير أنواع جديدة من الأسلحة؟ لا يمكن أن تقبل الإنسانية بهذا السيناريو الكارثي، ولا بد من وسائل وسبل أخرى غير الحرب للتوصل إلى الأجوبة».

قطر، كما أوضح سموه، وكما هي ماضية، اختارت طريق الحوار العقلاني القائم على الموازنة بين القيم والمصالح المشتركة في الوقت ذاته، واختارت طريق الوساطة لحل النزاعات بالطرق السلمية، وقد راكمت خبرة في هذا المجال تضعها في خدمة السلام والاستقرار والحلول العادلة للنزاعات، وقد أكد بصورة حاسمة وحازمة أن العصر الجديد الذي نحلم به، والذي يعمل صاحب السمو من أجله شخصيا، «هو عصر السلام والأمن والتعايش للجميع، هو عصر العدالة الاجتماعية، العصر الذي يستطيع فيه جميع الناس الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية من التعليم والصحة والموارد المائية والعيش بكرامة، ويستطيعون فيه تحقيق أنفسهم وممارسة نمط حياتهم وثقافاتهم».

في مسألة الحرب الأوكرانية، كان سموه واضحا وصريحا للغاية: «موقف دولة قطر ثابت من نبذ العنف وترويع المدنيين والاعتداء على سيادة الدول وكل ما من شأنه أن يشكل خرقا للقيم الإنسانية والقوانين الدولية. نحن نتضامن مع الملايين من الأبرياء واللاجئين ضـحـايـا هـذه الحـرب غـير العادلة والحسابات الجيوسياسية».

ولم يكن غريبا على الإطلاق، وهو يدعو لنبذ العنف وترويع الأبرياء، أن يذكّر بالملايين من الفلسطينيين الذين عانوا ويعانون من الاحتلال الإسرائيلي والتجاهل الدولي منذ أكثر من سبعة عقود، ومثلهم كثير من الشعوب الأخرى كالشعب السوري والشعب الأفغاني الذين فشل المجتمع الدولي في أن ينصفهم، ولقد عبر في كل ذلك عن هواجس لها ما يبررها، وتساؤلات هذا وقتها، ولأن سموه بدأ بقضية العدالة الاجتماعية باعتبارها صمام الأمان الحقيقي للمجتمعات، فإن هذه العدالة لا تتجزأ، ولا يجب أن تتجزأ، وعندما يعيد التذكير بمحنة ملايين الفلسطينيين المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود، فلأن على العالم أن يقول بصوت واحد اليوم إن الوقت حان لإنهاء هذه المأساة، وإنصاف هذا الشعب الذي عانى بما فيه الكفاية.

كلمة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، أمام منتدى الدوحة، عرضت أهم المشكلات العالمية وقدمت الحلول الموضوعية بكثير من الشفافية، وكانت كلمة السر الدبلوماسية التي من شأنها وحدها لجم التمدد العسكري والحلول المسلحة، والتأسيس لنظام عالمي جديد يعمل من أجل الإنسانية، أساسه العدالة والتنافس في التنمية والإبداع، بعيدا عن الحروب التي لم تجر سوى الويلات على مر التاريخ، وهو بهذا المعنى خريطة طريق حقيقية من أجل سلام مستدام يقوم على الموازنة بين القيم والمصالح المشتركة من أجل الوصول إلى الأمن والسلم الدوليين اللذين يواجهان أحد أخطر التحديات على الإطلاق، منذ الحرب العالمية الثانية، التي أوقعت حوالي «60» مليون قتيل، مثلوا في ذلك الوقت أكثر من 2.5 % من إجمالي تعداد السكان العالمي، وهي نتيجة كارثية ومؤلمة لا بد أن نستذكرها اليوم، من أجل صياغة بديل سياسي ودبلوماسي من شأنه وحده مواجهة التمدد العسكري والحلول المسلحة، كما طالب صاحب السمو في خطابه التاريخي للقادة وصنّاع القرار في العالم.
copy short url   نسخ
27/03/2022
860