+ A
A -
دَلَقْتُ لِتْرَ الحليب الطازج في الوعاء الفخاري الواسع، سكبْتُ فيه كيسين من عُلْبَتَي الكريمة المجفَّفة بنكهة الفانيلة، بالخلاط الكهربائي مزجتُ بين المكونين ما يغطي خمس دقائق من مساحة الزمن، سكبتُ في الخليط عُلبةَ الحليب المركَّز المحلَّى بطعم الكريم كاراميل، واستعَنْتُ بالخلاط الكهربائي لدقائق مجدَّدا قبل أن أُضِيفَ إلى المحتويات صَحْنَ المكسَّرات المجروشة من لوز وجوز، وبندق يُنَسِّمُ الكُلَّ بمرارة فريدة لا تخلو من حلاوة دفينة. جَهَّزْتُ العُلَبَ الخاصة بالْمُجَمِّد، بعضُها مستطيل الشكل والبعضُ الآخر دائري مع اختلاف الأحجام. فَرَشْتُ كُلَّ عُلْبَة بما يكفي من ورق السلوفان، أحضَرْتُ ملعقةً كبيرة لأَغْرف من الوعاء الفخاري وأملأ كُلَّ عُلْبَةٍ بالقدر الذي يُناسِبُها شريطة أن أحرص على أن أُشَكِّلَ في أعلى كُلِّ كمية ما يوحي بِتلّ أو شبه هرَم (جمعه أهرام)، ثم أغلقْتُ العُلَبَ ووضعْتُها في المكان الخاص بالتجميد في الثلاجة، وخَلَدْتُ إلى النوم..
أتذكر مساء الأمس على مسافة ثوان من الثانية صباحا غير بعيد عن بحيرة مارتشيكا التي تُغْرِي بفتنتها العابِرَ والْمُقيمَ، وأنا أطرب لسماع عبد الرحمان محمد في أجمل قِطَعِه التي يُكْسِبُها بُعْداً فلسفيا وجوديا وهو يصدح بلسان عربي فصيح خصوصا في قِطْعَتِه العَذْبَة: «يَا مَنْ هَوَاهُ أَعَزَّهُ وَأَذَلَّنِي»، أو «أَصَابَكَ عِشْق أَمْ رُمِيتَ بِأَسْهُمٍ» التي مالت إليها روحي وأنا أدعو مُرافقي إلى تكرارها مرارا على امتداد رحلة سفرنا بالسيارة وقد تَزَامَنَ إنصاتي لها مع مرورنا بـ»CAP DE L›EAU»، تَلِيها «قرية أركمان» غروبا، وكلاهما تُدَاعِبُك فيه نسائم البحر الذي يترامى على امتداده ساحرا آسرا يَنْطِقُ بِجَمال بلادي.
كلما تراءى لي البحرُ من نافذة السيارة يَخِزُنِي الصوتُ العذب لعبد الرحمان محمد، مُذَكِّراً بحرارة إحساس الدفء الغائب عن عواطف زمني، الدفء، دفء الحُبّ، الحُبّ الذي لم يَبْقَ منه إلاّ قميصه وسرواله كفَزَّاعة ينصبها مُزارع لإرعاب طيور مفترَضة يخشى منها على فاكهته، ولكل منا فاكهة عمره.
غير بعيد عن عبد الرحمان محمد كان يزحف صوتُ إليسا كسحابة تَتُوقُ إليها عيونُ الأرض العطشى. صوت دافئ، كلمات رقيقة، ولحن حَالِم يأخذك على ظهر النشوة إلى عالَم الحُلم الذي يتهادى على أمواج الحنين إلى مرآة الزمن الضائع. «يا مرايتي»، تلك المرآة صديقة كل فتاة وامرأة، المرآة الخبيرة المستشارة في كل صغيرة وكبيرة (لمن شاءت ذلك طبعا)، المرآةُ تُخْبِرُك بما لا يَجْرُؤُ الآخرون والأخريات على الاعتراف لك به، المرآة رفيقةُ الْمُحَارِبات في ساحة العُمر..
لمدارات مارتشيكا فتنة وجمال يُعْجِزُ خيالَك عن تصوير سحرها ما لم تصافِحْه بقدميك. حملتُ حذائي في يدي، جلسْتُ على الأرض، وألقيْتُ بقدميّ في الماء الباذخ الزُّرقة التي لا تُضاهيها زُرقة. كان المكانُ في غير أوقات الزحمة، لا ثالث سوانا أنا وأنتَ يا بحر، كم يغريني صدرُك الواسع بأن أرتمي في أحضانه حيث لا أحد غيري لأعانقك كما أريد دون أن أخشى نظرة مُسْتَرَقَةً من هنا أو هناك، لكني لا أعانقك بغير قدميّ وحَبَّذَا لو كان الغروبُ قد نصبَ خَيْمَتَه.. مُتْعة ما بعدها مُتْعة وأنا وأنتَ!
فتحتُ عينيّ موازاة مع صوت منبه الهاتف، حضَّرْتُ مائدةَ إفطاري، رَتَّبْتُ المطبخ، انتبهتُ إلى الهاتف لأتفقَّد من خطرتُ بباله.. فتحتُ الثلاجةَ لأبحث عن فواكه تُغْرِي طعما ولونا، قَشَرْتُها، قَطَّعْتُها حسب الأحجام والأشكال التي تَليقُ بمثلجاتي، تركتُها جانبا، جَرَشْتُ مقدارا من المكسَّرات، أخرجْتُ طَبَقَ التقديم الفخاري الْمُسَطَّح المستطيل، تناوَلْتُ عُلبةَ مثلَّجات مستطيلة من الْمُجَمِّد، نزعْتُ الغطاء، رفعتُ ورق السلوفان لأستخرج المثلجات بسهولة وأضعها بشكل مائل في الصحن الفخاري، زَيَّنْتُه بالفواكه الطازجة المقطعة بجمالية، وبالمكسرات المجروشة رسمتُ قلبا ممتدا بالحُبّ من الجميل جدا لو يخترقُه سيجار الشوكولا اللذيذ. أعترف بأنني عاشقة للمثلجات، ليس أكلا فقط، وإنما أعشق صناعتَها وتحضيرَها لمن أُحِبُّهم حتى أرنو إلى أَعْيُنِهم لأشعر بسعادةٍ كلما قرأتُ فيها معنى الفرح.
بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
04/08/2016
1520