+ A
A -
(في كلمة واحدة تُذْكَرُ، نقول إنها الخيانة. الخيانة! نعم، الخيانة، ذاك الموقف الأرعن الذي يضعنا فيه أو يتخذه نكاية في إخلاصنا لهم مَنْ هُمْ أقرب إلينا من أهداب العين).
(عند رصيف الرغبة، تتجرد المرأةُ من أسلحتها وتُشْهِرُ إفلاسَها العاطفي..).
في مقالٍ سابقٍ رَحُبَ به صدرُ الوطن وقفتُ معكم عند «أنوثة وبوح مراوغ»، وإذا كنتم تتذكرون، فذاك كان عنوان المقال الثاني (أظنّ) منذ عهدي بكم في باب «بين حرفين» الذي اتخذناه لقاءً تواصلياً أسبوعياً يجمعنا في صفحة اتجاهات ثقافية.
«أنوثة وبوح مراوغ» مقال شكَّلَ بالنسبة لي انعكاساً واستجابةً طبيعية لجاذبية صاخبة مارسها عليَّ (باعتباري نموذجا للقارئ النَّهِم للجديد والقديم) نصّ سابق بعنوان «فراق»، كلّما غبْتُ عنه عدتُ إليه بشوق جارف وأنا أقطف في كل قراءة ما يملأ سلة تأملاتي العاشقة لكل جميل من الإبداع سواء أكان إبداع الآخرين أم إبداعي.
القَصْدُ من وراء التذكير هو مناسبة النص، النص الإبداعي القصصي الثاني هذا الذي يستهويني الإبحار فيه والذي ارتأيْتُ تسليط بعض الضوء عليه اليوم، مع العلم أن كاتب(ة) النص ليس بآخَر سِواي.
مؤكد أنكم تطرحون أكثر من تساؤل واستفسار عن ولعي بقراءة نصوص قديمة لي حتى أني لم أعد أذكر شيئا من ظروف كتابتها!
هل كُلُّ القُرَّاء والكُتَّاب يتصرفون على هذه الشاكلة؟!
العلم لله. لكن في ما يخصني، فأنا أبادر بهذه الخطوة دون قصدية، والأهم أنني أفعل ما أفعله بكل أريحية ويقين في ما أصبو إليه كقارئة لا تُضيع فرصةَ تجديد العهد بكل ما يستحق من كتابات تتجاوبُ معها روحي إلى أبعد مدى.
لكنني أجدد التذكير بأنه شتان بين زمن الكتابة وزمن التلقي، وإذا كنتُ اليوم أعود بالقراءة إلى نص قديم، فثقوا بأنني أتعامل معه كنص، نص محايد أنظر إليه نظرةً محايِدةً لا علاقة لها بالساردة التي كُنْتُها وأنا أُلَمْلِمُ تفاصيلَه.
هناك قصة تستحق أن تُقْرَأَ، بل تستحقُّ ذلك مرارا، ليس لعُلُوّ شأن كاتبها وإنما لعمق الرؤية السردية التي يُكَثِّفُها النصُّ، وأنا واحدة من القِلّة التي تَفْصِلُ جيدا بين الحقيبة (الثقافة) وحامِلِها (الْمُثَقَّف).
لا شك في أنكم ستتساءلون: لماذا؟ والجواب: لأن معاينة الحقيبة (الثقافة) هي التي تَخلقُ المثقفَ وتعملق اسمَه على مرّ الزمن بقدر تَأَلُّق حقيبته، بينما النظر إلى اسمه مجردا لا يمكن مطلقا أن يجوّد (من الجودة) محمولَ الحقيبة.
في كلمة واحدة تُذْكَرُ، نقول إنها الخيانة. الخيانة! نعم، الخيانة، ذاك الموقف الأرعن الذي يضعنا فيه أو يتخذه نكاية في إخلاصنا لهم مَنْ هُمْ أقرب إلينا من أهداب العين.
«خيانة» هو عنوان القصة التي اخترتُها لكم اليوم لِنَعْبُرَ جِسْرَها. بعد قراءتنا فيها يمكنكم الوثوق بذوقي في اختيار ما يخدمنا جميعا كقُرّاء، وكذلك باعتبارنا جماعات يشكل كُلّ منها مجموعةَ أفراد قد يختلفون في أشياء وأشياء، لكن القاسمَ المشترك بينهم هو أنهم جميعهم يتقلبون فوق صفيح ساخن على نار هادئة تسمى الحياة.
هذه الحياةُ غَدَتْ تَنفخُ في ما يلتهب تحتنا من نيران، تَنفخُ فيها شيئا فشيئا بما تنصبه لنا من مصائد وفخاخ وبما تعترض به سُبُلَنا من عَقَبات ومُعيقات بِتْنَا نَتَعَلَّمُ (شِئْنا أم أَبَيْنا) كيف نَتَأَقْلَمُ معها ونَتَكَيَّفُ إلى أن ننتهي في فراغ(آتٍ) ما.

الخيانة!
الخيانة جارحة وقاسية ومؤلمة، ومذاقُها مُرّ، بل هو أشدّ مرارة من المرارة.
الخيانة مشهد صعب ومُدَمِّر، لكن هناك من اللاعبين بمشاعر الآخرين من يَجْرُؤُ على تجسيد هذا المشهد وباحترافية.
في كل حَيٍّ وشارعٍ تنتفضُ جُثَّة ماتتْ فيها الروحُ، وبات الدمعُ مِدْراراً..
في كل بيتٍ يَئِنُّ قلب، فقد كان سَيْفُ الخيانة بَتَّارا..
في كل رُكْنٍ يعلو صوت، وكانت شوكةُ الخيانة جَبَّارة..
في كل مكان وفي كل شِبْرٍ من الأرض تسقطُ أوراقُ شجرةٍ كانت تُسَمَّى في يوم من الأيام بيتا دافئا يُزَوِّدُ عُروقَ أفرادِه بدماء الحياةِ والبشاشة، لكنَّ هُبوبَ الخيانة دَفَنَ الحياةَ في قبرِ الحياةِ، وأصابَ كُلَّ ما فيها بالهَشاشة..
القِيَمُ مافتئتْ تنهارُ، الأخلاقُ أكثرها زُجّ به في ثلاجة، والإنسانُ المسكينُ يُقاوِم ويُقاوِم، ولا حياةَ لِمَنْ يُنادي..
زلزال الخيانة يضرب الْمُثُلَ عرض الحائط ويسوِّي القلوبَ بالأحذية.
لذلك لا غرابة أن يَفرضَ موضوعُ الخيانة نفسَه على المبدِع وهو أكثر خلق الله إحساسا بما يعانيه الآخرُ، هذا الآخر الذي صحيح أنه لا يمتُّ دائما إلى المبدع بِصِلَةٍ، لكنَّ المشاعرَ تجمع ما تفرَّق، المشاعر تُقَرِّب البعيد.. المشاعر! يا للمشاعر!
فعن أي شيء ستُحدِّثُنا الساردةُ في نص «خيانة»؟
مؤكد ستحدِّثنا الساردةُ عن الخيانة.
لكن لِنَتَعَرَّفْ قبل كل شيء إلى البيئة التي حَلَّتْ بها تلك الخيانة:
«أَجْبَرَتْهُ ساقُه الجريحةُ على مُلازَمة المكان، وأَجْبَرَتْها اللعنةُ على الاستجابة لإلحاحات جاره العجوز الذي راودها عن نفسها» (الساردة سعاد درير).
من خلال هذه الكلمات القليلة التي تخلَّلَتِ القصةَ، تُقدِّمُ لنا الساردةُ المعطياتِ التاليةَ:
هناك ذَكَر، وهناك أنثى تربطها بالذَّكَرِ السابقِ علاقة ما.
لكن مهلاً، فهناك طرف ثالث يشكل الْمُعادِلَ للذَّكَر من باب المنافَسة على الأنثى الوحيدة.
لا يهمُّنا هنا أن نقفَ عند خصوصية هذه المنافسة، لماذا؟ لأن العنوان بَيِّن واضِح يقول كل شيء دفعة واحدة وفي كلمة واحدة ودون تلميح أو إشارة.
بالتالي؟
بالتالي فكل ما يجدر بنا ترسيخه في أذهاننا هو أن المقامَ مقامُ الخيانة، ولا مجال للتخمين في أكثر من منافَسة غير شريفة تقتضيها الحالُ.
فهل يُعقل في مَطَبِّ الخيانةِ هذا أن يَتَّسِعَ المجالُ لِجَسِّ نَبْضِ الشَّرَفِ في قَلْبِ مُنافَسةٍ عنوانُها الخيانة؟!
الآن بعد أن تعرفنا إلى الشخصيات، يمكننا أن نتوسع في ما يتعلق بالوقوف عند طبيعة العلاقات القائمة بينها، وفي وسعنا أن نحدد مواقفَها. ولنا بطبيعة الحال أن نرصد هذه العلاقات، المواقف كالآتي:
أولاً: موقف العَجْز: يقف بنا عنده الذَّكَرُ الأول الذي يشكل البطلَ، الضحيةَ.
ثانياً: موقف التَّمَرُّد: تقف بنا عنده الأنثى الوحيدةُ التي يقاسمُها الذَّكَرُ الأول البطولةَ.
ثالثاً: موقف الاستغلال: يقف بنا عنده الذَّكَرُ الثاني المتطفل على حرمة العلاقة بين الذَّكَر الأول وأنثاه. إنه الذَّكَر الثاني الدخيل- الجاني (لا ننسى أن الأنثى هنا تقاسِمُ الجاني دورَه).
غير أن الذَّكَرَ الثاني هذا في القصة يتميز حضورُه بأنه حضور غير قوي، لأن الفكرة المحورية تقوم على النتيجة السلبية التي ترتبت عن تسلُّله (الذَّكَر 2) إلى حياة الثنائي (الذَّكَر الأول وأنثاه).
من المؤكد أن الحديثَ عن الثنائي هذا يُمْطِرنا بوابل من الأسئلة التي لا يسعنا حصرها الآن وتحديدها.
إلا أن السؤال الأُمّ، الأَهَمّ الذي يجدرُ بنا تسجيله هنا هو كالتالي:
ما الأسباب التي قيَّدت سياقَ حياة الثنائي (الذكر 1 وأنثاه) ودفعت الأنثى إلى التمرد والثورة وزعزعة استقرار العلاقة (المقدسة كما كان من المفروض أن تكون) وفتح الباب للأغراب (الذكر 2)؟
إذا عدنا إلى سياق النص القصير المقتطف من القصة والوارد (كما رأيتم) بين مزدوجتين، يمكن أن نحدد خط اتجاه كل شخصية على حدة:
- في ما يخص الشخصية الأولى، نجد أن الساقَ المصابةَ عنوانُها (الذكر 1): مُعيق.
- في ما يخص الشخصية الثانية، نجد أن اللعنةَ عنوانُها (الأنثى): رغبة واشتهاء.
- في ما يخص الشخصية الثالثة، نجد أن الإلحاحاتِ عنوانُها (الذكر 2): مُحرِّض.
فماذا حصل بالتالي؟
دون مقدمات نقول في كلمات قليلة: عند رصيف الرغبة، تَتَجَرَّدُ المرأةُ من أسلحتها وتُشْهِرُ إفلاسَها العاطفي..
ببساطة يمكننا أن نختصر الموضوع جملة في الآتي:
الذَّكَرُ الأول يتعرض لإصابة في ساقه تجعله عاجزا عن تلبية الرغبات المشتعلة عند أنثاه، تلك الرغبات الصارخة التي لا يطفئها إلا الذَّكَرُ الثاني الذي انتهزَ الفرصةَ (فرصة غياب الذكر 1 أو تواريه عن الأنظار بحكم الإصابة) لينال من جسد أنثى تستسلم له ويشتهيها وهي ليست من حقه.
وهنا نأتي إلى ذيل من الأسئلة التي تمضي في السياق نفسه، بل وتضع النُّقَطَ على الحروف:
لماذا أصبح الذَّكَرُ الأول عاجزا عن الاستجابة لمتطلبات أنثاه؟
ما الذي جعل الأنثى هذه تزهد في انتظار تجاوز ذَكَرِها لإصابته التي عظَّمَتْ عندها الشعورَ بالحرمان؟
كيف يعقل (في ذروة هذا الظرف المرضي العصيب الذي تعرض له الذَّكَرُ الأول) أن تُفَكِّرَ الأنثى في اشتهاءاتها بينما هذا الذي كان يُقاسِمُها لحظاتِ الرغبة وكُلَّ شيءٍ (الذكر 1) طريحُ الفِراش؟
متى يُمْكِنُ أن تتجسَّدَ معاني الرحمة والمودة والإخلاص إذا لم تتجسَّدْ في هذه اللحظة الحَرِجَة التي يمرُّ بها الذَّكَرُ وقد كان الأولى أن يَجِدَ المسكينُ (والحالة هذه) في أنثاه سَنَداً وظهراً وعُكَّازاً؟
ألا نشكّ في صحة العلاقة التي كانت تربط بين الذكر وأنثاه إذا كان من السهولة على الأنثى أن ترتمي في أحضان ذَكَر آخر وذَكَرُها الحقيقي في موقف الألم والمعاناة؟
(...)
والسؤال الأخير: بأي وجه ستنظُرُ الأنثى إلى ذَكَرِها الأول عند عودتها وكيف ستكون رَدَّةُ فعل الذَّكَر المخدوع؟
يقينا سنجد في القصة عدداً من الأجوبة لأسئلتنا هذه. في المقابل لن نختلف في أن أسئلةً أخرى ستبقى عالقةً في منأى عن جواب، وللقارئ أن يتخيَّلَ ويُخَمِّنَ ويفترضَ ويتصوَّرَ..
القلبُ الجبان هذا هو! القلبُ الجبان صاحِبُهُ يُهان. القلبُ الجبان تعوزه المروءةُ، لذلك من السهولة أن يقع في شراك الخيانة، وأي ندم يأتي بعدها لا يُسْعِفُ، لأنه ندم يأتي بعد فوات الأوان.
انظر إليه، ذلك القلب الجبان الذي يهتف باسم الغدر ويسقيك كؤوس الخيانة..
لَذَّةُ الخائن لا تُعَمِّرُ سوى دقائق معدودة، بينما شقاؤُك أنتَ يا معذَّبُ يطول وألمك يدوم.
شيطان وأيّ شيطان هذا الذي يُجَمِّلُ للخائن شكلَ الخيانة ولونَها وطعمَها ويجعلها مستساغة!
(موعدنا مع التتمة السبت المقبل بإذن الله).

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
06/08/2016
1469