في ذاكرة صراع أمم شرق آسيا وخاصة الصين وكوريا الجنوبية واليابان القديم، إرث دموي مخيف راح ضحيته عشرات الملايين من البشر، وهو ما يعني أن الحكمة الصينية لم تكن قادرة على عزل عالمها الصغير الضخم في شرق آسيا عن مسافات الحروب البشعة، وأن فكرة الأخلاق المنهجية الجميلة لأساليب القتال المتعددة، كما هي فكرة التأمل في اليوغا وغيره من منظومة الميراث الشرقي، لم تخلق مدناً ولا أمماً فاضلة.

ولقد ظلت آثار تلك الصراعات تُلقي بظلالها، ولم تمح من وجدان مئات الآلاف من الضحايا، ومن ذلك نساء السُخرة للمتعة، اللاتي كان يختطفهن الجيش الياباني من كوريا ومن الصين، ويصطحبهن في غزوه، ويضعهن في منازل يصطف الجنود الغزاة أمام أبوابها، كما يصطفون عند دورات المياه، أما في حضارة الإنكا فقد كان سقوطها الدموي في أميركا اللاتينية على يد الغزاة الأسبان، يعتمد على فراغات ضخمة مثّلها العقل الأسطوري، في عبادة أبناء الشمس وآلهتها.

وبدأت رحلة التنصير بغزو بشع قُهر فيه آخر ملوكهم رغم أنه خضع للمسيحية قبل قتله، وقد بدأت فيه أوروبا التبشيرية المسيحية ذلك الوقت، خط الاستنزاف التاريخي لأميركا اللاتينية، والذي استمر حتى ثورة الكفاح اليساري في أقاليم اللاتين، ولم يغير التلاقح والهجين الذي شارك في تشكله الاسبان ذاتهم، من فكرة تسخير الأمم اللاتينية، لحديقة خلفية، ولم يكن هناك تحولٌ شعبي في هذه المناطق نحو الإسلام، إذ انها ظلت بعيدة عن مناطق وصوله.

أما في إفريقيا فكان توجه إنسانها على الدخول في الإسلام، يقابله مفاهيم وثنية تجمع بين الفزع الدائم من الطقس والأجواء والسحر، تراهن فيه تلك القبائل على تقديم قرابين للغوث، قد تصل في حالات منها إلى ذبح الأنفس الإنسانية، وفيما يُفسّر الكهان السحرة للناس قصص نجاتهم وسُبل سعادتهم، تُذبح قرابين الأنعام وتنصب رؤوسها أو هياكلها أو غير ذلك من الشعائر، التي تشمل التمثيل الاختياري بالجسد كشق الشفاه وغيره، وكانت هناك مساحة هائلة من صلاحيات الملوك، وفتح مطلق للروابط مع النساء، وتحميل المرأة طاقة ضخمة للعمل مع الإنجاب، وطقوس متعددة تؤثر على الإنسان الإفريقي في مظهره وجسده.

وصل الغزو الغربي لإفريقيا واستعمرها، مع تواصل جسر العبودية والنخاسة، ونقل بعض أبناء تلك القبائل إلى أوروبا وأميركا في تسخير متوحش، مع تورط بعض العرب المسلمين في تلك الجريمة التاريخية، الشاهد هنا أن إفريقيا الأمس التي يسعى المشروع الغربي الحديث، لاستفزاز إنسانها ضد الإسلام ويستخدم بعض مثقفيها في ذلك، تعرضت لحملات تبشير من ذات الغزاة، الذي ضُخ تحت إرادة القوة الرأسمالية العسكرية.

ويروي د. مصطفى محمود الذي خصص تجربة من حياته، بين قبائل إفريقيا، أن أحد ملوك القبائل الوثنيين حين سمع عظة لمبشر غربي، يقول فيها إن السيد المسيح ينهى عن السرقة، صرخ فيه قائلاً اذهب وقل ذلك لقومك، فهم من سرقونا وأما نحن لا نملك حولنا شيئاً لنسرقه.

لقد كانت رحلة الإسلام في افريقيا مختلفة تماماً، وهذا لا يُسقط بعض الحوادث المسيئة، غير أن الإسلام الذي أقبلت عليه القبائل الوثنية الإفريقية، تحولت فيه في حالات عديدة إلى حكم مناطقها وأقاليمها بنفسها، وانسجم الإنسان الإفريقي مع البعث الجديد، الذي جاء موافقا لما تبقى من روح فطرة في ذاته، فرأى في الإسلام روح كرامة وعهد طهرانية، وتقدم عقل ورأي يرتفع فيها لوعي انساني وإيماني مختلف.

وكان التحول للإسلام أيضاً في مناطق الهندوس في آسيا الهندية، في العهد القديم، فانتقلوا من ارث الديانة التي تعلن من معابدها حتى اليوم، ثنائية تقديس الأبقار حتى إحراق رفاة الإنسان، ومغسل التعبد المشهور، المختلط برماد الجثث وبرجيع الأنعام، يزدحم فيه الناس في مساحة مائية محدودة، وكل الطقوس المتعلقة بذلك، فقرر الهندوس الأوائل التحول إلى طهرانية الإسلام ووضوح رسالته العقلية، وبعثه الإيماني في الذات البشرية.

إننا اليوم نعرض لهذه المساحة المهمة، رداً على دعاوى أن الإسلام منهج متخلف، وأن العنصريات الجديدة في الشرق، التي ترجع لأصولها هي حالة تحرر تتفق مع مدنية الغرب المزعومة، وأن حياة الإسلام بين أمم الجنوب كان نتيجة غزو خارجي، نَسَل منه أولئك المسلمين، وليس قرار شعوب تحولت لرسالة الحق المحمدية، وفي ذات الوقت نعيد التذكير بالتأمل العقلي بين ارث تلك الديانات وبين مفاهيم الإسلام، التي قرر بموجبها الجنوبي المضطهد اختيار حريته فيه.مهنا الحبيل

باحث عربي مستقل

رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية