يعيش العالم الآن في ظل ظروف استثنائية، فرضتها تحديات دولية راهنة لا تخفى على أحد، من أشدها وطأة كوفيد 19 ونشوب الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة التضخم العالمي، فضلا عن مشكلة التغير المناخي، وهذه التحديات أوجدت تداعيات استفحلت وأزمات استحكمت، أضعفت اقتصاديات العالم، بينما الاقتصاد القوي هو الشغل الشاغل والهدف الأسمى لكل شعوب الأرض، يتنافس من أجله المتنافسون.
أي أن الرياح جاءت عكس ما تشتهي السفن، والحمد لله في خضم هذه الأجواء الدولية المشحونة استطاعت قيادتنا الرشيدة بحنكتها وحكمتها، أن تعبر بسفينة الوطن إلى بر الأمان بفضل الرؤية الثاقبة والرأي السديد، وعزيمة شعب يكن كل الانتماء للوطن والولاء للقيادة، لقد تخطت قطر وتجاوزت أية آثار سلبية لهذه التحديات العالمية، وليس هذا فحسب، بل حققت نجاحات مبهرة في إدارة الأزمات، وتقدما مشهودا شمل التعليم والتكنولوجيا والاقتصاد والرياضة والنقل والبنى التحتية، مما جعلنا نعيش واقعا عصريا في روعته وكفاءته، لكن في الوقت ذاته لا مناص من العمل الدؤوب كي نحافظ على مكتسباتنا وثمرات جهودنا في كل القطاعات، وفي الصدارة منها قطاع الاقتصاد.
العالم المتقدم كله يتجه بكل ما أوتي من قوة ومن إمكانات إلى اعتماد نموذج الاقتصاد الدائري على أمل أن تتعاظم فوائده وعوائده، ويحافظ للوطن على مقدراته وموارده، وهو النموذج الأكثر مواءمة وملاءمة في ظل هذه الأوقات التي تعقد فيها المؤتمرات والملتقيات لإيجاد سبيل واضح لمكافحة الاحتباس الحراري والانبعاث الكربوني وتلوث الهواء وغيرها من المشكلات الناجمة عن استخراج واحتراق الوقود الأحفوري وغيره من مسببات التلوث، وحل مشكلات التغير المناخي، ويرى المتحمسون له أنه عند مقارنته بالاقتصاد الخطي تأتي النتيجة لصالحه، ففي الاقتصاد الخطي، يتم تصنيع السلعة، ثم طرحها للاستهلاك، فتستهلك حتى تنتهي صلاحيتها، ثم يتم التخلص منها في شكل نفايات ضارة بالبيئة، أما في الاقتصاد الدائري فيعاد تصنيع وتدوير هذه المخلفات أو النفايات بعد تأهيليها لإعادة تصنيعها من جديد، وهذا ما تسعى إليه الدول المتقدمة، ففي اليابان على سبيل المثال تم الأسبوع الماضي إطلاق حملة لجمع مخلفات الحواسيب القديمة وأقراصها المرنة والصلبة لإعادة تدويرها وتصنيعها كموديلات حديثة تتميز بتقنيات الذكاء الاصطناعي، لا غنى عنها لمن يرد التميز في مرحلة وعصر التحول الرقمي.
وبينما يرى كثيرون أن الحكم على نتائج الاقتصاد الدائري لا يزال مبكرا، يرى المتحمسون له أن كل شيء قابل بموجبه للتدوير وإعادة الاستخدام في النطاقات الصناعية والزراعية والتعدينية والغذائية والرياضية والإنشائية والطاقة والنقل، كما يعمل على توفير المواد الخام وتعظيم قيمتها، وجعلها أكثر ملاءمة لحاجات الإنسان ومتطلباته، وتبرز أهميته في تحسين مستوى معيشة الإنسان بما تدره من عوائد مادية، وما توفره من رفاهية، وسيلة مهمة لتشغيل الأيدي العاملة لأنه يخلق فرص عمل جديدة في مراحل الفرز والتدوير، كما يشجع الاقتصاد الدائري أيضا اعتماد نموذج التأجير، أي تأجير نفس المنتج لأكثر من مستخدم أو عميل، أو التبرع به لمساعدة أطراف أكثر احتياجا في صورة من أجل صور التحضر والرقي الإنساني.
وبالنسبة لمنطقتنا الخليجية فلا شك أنها منفتحة على جميع التجارب خاصة في مجال الاقتصاد بحكم كونها منتجة للنفط، ولديها قاعدة صناعية لا بأس بها، وبالتالي تعد بيئة خصبة لتطبيق نموذج الاقتصاد الدائري، والمجال لا يتسع لتفاصيل أوسع، لكني أضرب مثلا حيا لنموذج الاقتصاد الدائري في قطر التي شيدت سبعة ملاعب جديدة بالكامل، لا نظير لها عالميا في روعة التصاميم والتجهيزات والملحقات، لتقام عليها مباريات المونديال، وطبقا لما صدر من تصريحات عديدة فبعد انتهاء البطولة سيتم تفكيك ما يقارب المائتي ألف مقعد من مقاعد هذه الملاعب لمنحها كمساعدات قطرية لعدد من الدول النامية، لتحسين البنية التحتية الرياضية بها، وهذا العدد كاف لإنشاء ما يزيد عن عشرين ملعبا في تلك الدول تشرف عليها دولتنا، وبأن الساحرة المستديرة تعد عشق الجماهير في طول العالم وعرضه فإن هذه المبادرة ليست تعزيزا لمكانة قطر العالمية وحسب بل ولمكانة العرب أيضا، لأن قطر دولة تعتز بعروبتها أيما اعتزاز لدرجة أطلقت معها على المونديال «مونديال العرب».
ولمزيد من تطبيق نموذج الاقتصاد الدائري سيتحول ملعب لوسيل إلى مركز مجتمعي متعدد الأغراض يضم مدارس ومتاجر ومقاهي وعيادات طبية، متاحة لكل الناس، وهكذا سيتم الاستفادة من بقية ملاعب المونديال كمرافق خدمية وفنادق ومزارات.. إلخ، وهذه هي قطر سباقة في التجريب والتجديد والتطبيق ومد أيادي الخير للجميع.