+ A
A -
غريبة هي الحياة، تأتيك بِذَيْلِ الْمِحَن قبل أن يرتدّ لك جَفْن.. وتهيم أنتَ في دجنتها وفيافيها بحثا عن كنزها المفقود أو الذي لا يوجد إلا في مخيلتك! لا أدعوك إلى التشاؤم، لكنني ما زلتُ أمني نفسي بأن غدا يوم آخر.
قد لا تنقصني الجرأة لأعترف بأن أكثر شيء ندمتُ عليه في حياتي هو متابعتي للدراسة بعد أن كنتُ قد اخترتُ طوعا التوقف قبل حصولي على شهادة الباكالرويا تحديدا. لن أسامح نفسي على عدم اتخاذ موقف صارم بشأن تنفيذ قراري الْمُعَلَّق، ثم إنهائي لدراساتي العليا وصولا إلى درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع (وكانت أعلى ميزة وأهمهَّا يومها). ندمتُ على الليالي الطويلة التي أنفقْتُها في كتابة ما يزيد على 800 صفحة من أطروحة الدكتوراه التي تفوَّقْتُ فيها أكثر من الرَّجُل باعتراف لجنة المناقَشة التي نوَّهتْ بجهودي لاسيما وأني توسَّلْتُ بالمنهج السيميائي في قراءة فنون العرض والأداء.. كل هذا ندمتُ عليه مع إضافة ما تلا ذلك البحثَ الكبير من بحوث صغرى بعضُها تمّ جمعه في كتب وبعضُها الآخر ظَلَّ على شكل دراسات..
ما أريد تذكيرَ نفسي به هو تنويه الآخرين في عدد من المناسَبات بلغتي الراقية التي تصبَّبْتُ من خلالها إبداعا في الشعر والقصة والرواية والمسرحية وما إلى ذلك من أشكال إبداعية لا اهتمُّ بتسمياتها. ما يهمُّني إبداعي الذي هو كلُّ ثروتي في الحياة إلى جانب ما أَطربُ بكتابته من مقالات كهذه التي تمدّ إلى قُرَّاء «الوطن» جسرَ التواصل وتفتح لهم نافذة على العالَم كما أراه بعينيّ.
لا أخفيكم أن إبداعي لم ينجُ في بداياته من إكراهات التضييق، لكن لا أحدثكم عن عنادي من أجل أن يتنفَّسَ وإن على حساب أنفاسي المختلَسة.
يجرفني الحنين إلى حُلمي القديم، هوسي بتصميم الأزياء ليس على الورق وإنما بالتطبيق على صفحات الثوب مباشرة. لذلك يُضْحِكُني أن أسجن نفسي في سجن الكتابة: الكتابة بالقلم والورقة، والكتابة بالمقص والثوب منذ زمن وإلى الآن.. ولهذا تجدُ (أنتَ) غرفتي الكبيرة سجنا لذيذا، فمنها المكتبة ومنها المعمل الصغير الذي تستدرجني فيه روحي إلى البحث عن الحُلم الضائع. لا أنفي أن محاولاتي الأولى مع المقص كانتْ مُهَرَّبة، لكن مع الوقت تمّ رفع الحظر عنها فأخلَصْتُ لهواياتي.
أتذكر هنا ابن خلدون، عبد الرحمان بن خلدون الذي أخلص لهواياته، وكان يُثير زوبعة من الاستغراب المقروء في عيون زملائه وأقرانه وهو طفل، ابن خلدون الذي آمن بمشروعه الفكري وحقَّقَه على أرض الواقع خصوصا مع وقوف أشخاص مميَّزين في صفِّه بدءا من أستاذه الذي أَيْقَظَ فيه شُعْلَةَ الحماس. عبد الرحمان بن خلدون هذا يُبْهِرُك في مقدمته في كل ما تطرّق إليه من فنون.. ابن خلدون الذي يُظْهِرُ لك الحكمة حتى من تقديم المفعول به على الفاعل أو تأخير الفعل الذي كثيرا ما يُقال إنه من الخطإ في اللغة العربية أن يُؤَخَّرَ، إذ المفروض أن يبدأ به دائما الكلامُ في اللغة العربية..
لا أُنْكِرُ أنني استفدتُ بشكل كبير مما حقَّقْتُه بفضل الله أحمده وأشكره، لكن من يتصور مساحةَ الأشواك التي تنغرز في روح الواحد قبل أن يبلغَ عَبَقَ وردةٍ فوَّاحةٍ تُظَلِّلُها كفُّه وتسمح له بقطفها برِقَّةٍ ولُطْفٍ؟!
كان أهون عليَّ بكثير لو أخلصْتُ منذ البدء لميدان الأزياء الذي لن يُسَبِّبَ لك ضررا ولا يتسبَّب لك في مطبَّات، ولا يجعلك تتخلَّف عن السرب رغم تفوّقك الذي تُرْفَع له القُبَّعة. والنتيجة أنني عِوَض أن أربِّيَ أبنائي صرفْتُ النظرَ عن ذلك لأُرَبِّيَ الأفكارَ والنظرياتِ والْمُثُلَ، وغابَ عنِّي أن أفلاطون مَاتَ تماما كما ماتت مثاليتُه عند أكثر خلق الله.
لا أَجِدُ إلا أن أبتسم عندما أتذكَّرُ كلامَ الفيلسوف جان جاك روسو الذي قال: «قبل أن أتزوجَ كان لديّ سِتّ نظريات في تربية الأطفال، أما الآن، فعندي ستة أطفال وليس عندي نظريات لهم»!

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
11/08/2016
1547