+ A
A -
جريدة الوطن

توالت التحذيرات الإسرائيلية في الأيام والساعات الأخيرة من انفجار الأوضاع بالضفة الغربية، واندلاع انتفاضة جديدة ستكون مختلفة هذه المرة عن الانتفاضتين السابقتين، بينما ترى تحليلات وتعليقات متلاحقة بالصحافة العبرية أن الانتفاضة الثالثة قد انطلقت فعلاً، وباتت في مراحلها الأولى والتمهيدية وستتصاعد أكثر مع الوقت، خاصة في ظل ترهل قيادة السلطة الفلسطينية وانفصالها عن الشارع الشاب والحيوي، وحالة الانسداد السياسي التي تمر بها القضية ككل، والتعاطي الإسرائيلي الدموي والمتغطرس مع الأحداث والتطورات الأخيرة الذي يؤججها أكثر ويصب الزيت على نارها المشتعلة أصلاً.

الانتفاضة القادمة

كانت مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون المنطقة، باربرا ليف، قد زارت فلسطين المحتلة الأسبوع الماضي، وكان لافتاً اجتماعها مع مسؤولين أمنيين إسرائيليين، مثل رئيس جهاز الشاباك، نداف أرغمان، ومنسق شؤون الاحتلال بالأراضي الفلسطينية غسان عليان، وسمعت منهما ما ذكره أرغمان علناً أمس الإثنين في ندوة بجامعة هرتسليا، حيث طرح أرقاماً عن تصاعد، بل تضاعف العمليات في السنة الجارية وجرأة الشباب الفلسطيني في مواجهة جيش الاحتلال، وزعمه أن هذا الأخير يجتاح مناطق سيطرة السلطة بشكل يومي مضطراً؛ نتيجة عجز أو تقاعس هذه الأخيرة. «لا فرق»، ما يؤجج الأوضاع ويؤدي إلى سقوط شهداء وجرحى واعتقالات، وبالمقابل إلى مزيد من الغضب في صفوف الجمهور الفلسطيني.

رئيس الشاباك، كما معلّقين آخرين كثر، تحدث عن جيل فلسطيني وطني وشاب غير منتمٍ تنظيمياً، ولا يتأثر بالانقسام والتباينات السياسية، ومنفتح على كافة شرائح المجتمع، لكن دون أخذ تعليمات من أحد. وهو مرتبط أكثر بالسوشيال ميديا والإعلام الجديد المعبّر فعلاً عن العقل الجمعي الفلسطيني، ولا يستطيع الغزاة ولا الطغاة بالطبع السيطرة أو إحكام قبضتهم عليه.

بتفصيل أكثر، لا شك أننا أمام جيل فلسطيني شاب عشريني في معظمه – الشهيد إبراهيم النابلسي لم يتخط العشرين، كما عديد من منفذي العمليات الفردية والشهداء في الأسابيع والشهور الأخيرة – جيل لم يشهد، ولكن سمع عن الانتفاضة الثانية «والأولى بالطبع»، التي قمعتها إسرائيل بدموية ووحشية، بما في ذلك حصار غزة، وإعادة احتلال الضفة الغربية، جيل لا يخشى إسرائيل ولا يقيم وزناً أو اعتباراً لعنفها وجبروتها وما تصفه بقدرة ردعها، وهو ناقم وغاضب جداً من الاحتلال الذي ينتهك الحريات العامة ويخنق مناحي الحياة المختلفة للفلسطينيين بشكل قاسٍ وبشع. ما يعني مباشرة أن دوافع الجيل وقراءاته وطنية وسياسية بامتياز، أساساً تجاه الاحتلال كما الواقع الفلسطيني بشكل عام.

وفيما يخص السلطة وقيادتها فيراها الجيل الجديد عاجزة عن تحمل مسؤوليتها وحمايته وتحريره من الاحتلال، كما عن توفير حياة كريمة له، بعيداً عن قبضته وهيمنته الناتجة أساساً عن أداء السلطة وخياراتها السياسية السيئة، بل الكارثية.

السبب والعامل الاقتصادي حاضر أيضاً، ولا شك في غضب ونقمة الجيل الجديد المتعلّم والمثقف والمتصل بالتكنولوجيا والعالم، ولكنه ليس مركزياً أيضاً، كما تقر إسرائيل نفسها مع الانتباه إلى القاعدة الوطنية الفكرية والسياسية للجيل الفلسطيني، الباحث عن الحرية والسيادة والاستقلال والذي يفهم ويعي جيداً أن لا تحسن جذريا للوضع الاقتصادي في وجود الاحتلال ودون تغيير الواقع السياسي الراهن.

من هذه الزاوية الفكرية السياسية تحديداً، لا شك أننا أمام تسليم الراية بين الأجيال الفلسطينية خلال القرن الأخير وكل عشرين سنة تقريباً، من جيل النكبة الأول -1948- الصامد والذي ورث ونقل الذاكرة العصية إلى الجيل الثاني وانطلاق الثورة المعاصرة في ستينيات القرن الماضي، ثم تراجع قوة منظمة التحرير بعد ذلك وظهور جيل الانتفاضة الأولى «منتصف الثمانينيات» الذي أخذ على عاتقه المواجهة والتصدي للاحتلال بعد عقدين من الاعتماد على قيادة الخارج في الأردن ولبنان، ثم جيل الانتفاضة الثانية مطلع الألفية الجديدة، الذي انفجر في وجه اتفاق أوسلو، تماماً كما توقع القيادي، خالد الحسن، من جيل المؤسسين في الثورة المعاصرة وحركة فتح.

خلال العقدين الماضيين شهدت فلسطين المحتلة تطورات مهمة فيما تشبه استراحة المحارب، منها الانسحاب الإسرائيلي من غزة وإعادة الانتشار حولها، ورحيل الرئيس ياسر عرفات 2004، ومن ثم اتفاق القاهرة 2005 الذي تضمن التهدئة مع الاحتلال والانتخابات الرئاسية والتشريعية، وبعدها للأسف الانقسام والاقتتال الذي منع بلورة استراتيجية وطنية موحدة لمواجهة الاحتلال المباشر في الضفة وغير المباشر في غزة، رغم التطور اللافت والمهم بعمل وأداء المقاومة هناك، واستنزاف قدرات الاحتلال وفق ما سمحت به الإمكانات والظروف.

والآن، وبعد عشرين عاماً تقريباً، ينشأ جيل جديد في الضفة الغربية، للرد على تعثر وانسداد آفاق عملية التسوية كما وصول مشروع السلطة الفلسطينية إلى طريق مسدود، مع الانتباه إلى مسؤولية الاحتلال المركزية أيضاً عن ذلك.

قالت دراسة لمعهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب الأسبوع الماضي، إن إسرائيل تدفع عملياً ثمن إيقافها المفاوضات والعملية السياسية مع السلطة والاكتفاء بالخيار العسكري، ما يؤجج ويصب الزيت على النار، مع اتضاح حقيقة فشل التحسينات الاقتصادية غير الكافية لتغيير الواقع، أياً كانت مسميات الاحتلال لها، إدارة الصراع أو تقليصه أو السلام الاقتصادي.

ورغم قبول السلطة بتلك التحسينات في الفترة الماضية للحفاظ على بقائها بحد ذاته، لكنها أدت إلى مزيد من الإهانة والاستخفاف الإسرائيلي بها، ومزيد من النقمة الفلسطينية الشعبية عليها وعلى الاحتلال؛ كون القضية سياسية بامتياز، وواضح أن إسرائيل تزداد تطرفاً وانحيازاً إلى اليمين مع الوقت ولا تريد أو لا تستطيع اتخاذ خطوات سياسية جدية، عدا عن حالة عدم الاستقرار السياسي التي تمر بها مع ذهابها إلى انتخابات مبكرة في نوفمبر القادم هي الخامسة في أقل من أربع سنوات.

والشاهد أن الوضع في الضفة يغلي ومتفجر، حيث ثلاثة ملايين نصفهم من الشباب العشريني الغاضب وهم أخطر من إيران وحزب الله والجبهة الشمالية، كما قالت تقارير في الصحافة العبرية نقلاً عن التقديرات الأمنية، مع الانتباه كذلك إلى القدس كنقطة متفجرة، إضافة إلى الخليل؛ حيث التهويد والغطرسة والعنجهية، مع السماح باقتحامات المستوطنين الواسعة وفرض التقسيم الزماني والمكاني بالحرم الإبراهيمي، وسعي متواصل لفرضه في الحرم القدسي الشريف أيضاً.

ولذلك كله يبدو الانفجار حتمياً، عبر جيل غير منتمٍ تنظيمياً، لكنه مسيّس إلى أبعد درجة، لا يتأثر بالتأكيد بالاحتلال ولا يعذر السلطة وانشغالها بنفسها ومصالحها الفئوية الضيقة، والانتفاضة الثالثة كما نرى بوادرها الآن ستكون شعبية غير تنظيمية. ولكن تلقائية وعفوية تماماً كما الانتفاضتين السابقتين، مع جيل شاب ثائر على الاحتلال، وناقم على الانقسام والخلافات الداخلية، بل يبدو بحد ذاته موحداً وحافزاً لإنهاء الانقسام ولو ميدانياً، كما رأينا ونرى في جنين ونابلس.

الانتفاضة الثالثة ستشهد كذلك مع الوقت مزيداً من العمليات المسلّحة والمقاومة الشعبية، والتصدي للاحتلال وعملياته واجتياحاته واجتهادات وعمليات فردية أيضاً، كما رأينا الأسبوع الماضي في نموذج محمد الميناوي، الذي سافر بمفرده من نابلس حتى تل أبيب لتنفيذ عملية ضد هدف نوعي للاحتلال ورفض استهداف مدنيين أو عزل، رغم أنهم كانوا بمتناوله طوال الطريق.

الخاتمة

في الأخير، وباختصار تبدو الدولة العبرية أمام مأزق تاريخي بمواجهة الشعب الفلسطيني، وعاجزة عن تبني خيارات ناجعة، لا سياسياً ولا عسكرياً وميدانياً، بينما الساحة الفلسطينية بالمقابل أمام فرصة تاريخية ويحتاج الأمر إلى عزيمة وإرادة لإعادة فرض القضية على جدول الأعمال، وإجبار العالم على التدخل، وإسرائيل على التراجع، علماً أنها لا تفعل ذلك إلا تحت الضغط والقوة والمسدس في الرأس، كما يقال عن حق في كتابات واعترافات نادرة، ولكن مهمة، بالصحافة العبرية.

copy short url   نسخ
20/09/2022
0