عن مسعر بن كدام قال: كنتُ أمشي مع سُفيان الثوري، فسأله رجلٌ متسولٌ مالاً فلم يكُنْ معه ما يُعطيه.
فبكى سُفيان، فقلتُ: يرحمُكَ الله ما يُبكيك؟
فقال: وأيُّ مصيبة أعظم من أن يُؤمِّلَ فيكَ رجلٌ خيراً فلا يجده عندك!
إذا طلبَ أحدٌ منكَ صدقة، أو قصدكَ في قضاءِ دَين، أو عجزٍ في تكلفةِ عمليةٍ جراحية، أو لتسدَّ جوع معدته، أو لترحم كرامته وتجبر خاطره، فاعلمْ أنه رفعَ يديه إلى اللهِ أولاً، وأنَّ الله دلَّه عليكَ لتكون سبباً في قضاءِ هذه الحاجة، فأنتَ المُكرَم بهذا لا هو، وأي كرامة أعظم من أن يجعلكَ مولاكَ سبباً في قضاءِ حوائجِ عباده، ولولا أنه أرادَ لكَ الخير لجعل قضاءها عند غيركَ، أو لقضاها له من دونكَ ومن دون غيرك!
أنتَ الآخذُ منه وإن بدا لكَ أنكَ المُعطي، وهو المُتفضلُ عليكَ وإن رأيْتَ أنك صاحب الفضل، هو يُريدكَ لدُنياه الزائلة، وأنتَ تُريده لآخرتكَ الباقية!
فاستشعرْ هذا المعنى يَهُنْ عليكَ البذل!
يقولُ الإمامُ الشافعي:
الناسُ للناسِ ما دام الوفاء بهم
والعسرُ واليُسر أوقاتٌ وساعاتُ
وأكرمُ الناس ما بين الورى رجلٌ
تُقضى على يده للناسِ حاجاتُ
واذكُرْ فضيلة صُنع اللهِ إذ جعلتْ
إليكَ لا لكَ عند الناس حاجاتُ
كانَ الأوائلُ يرون أن قصدَ الصديق في معونةٍ مَكرمة للصديقِ لا للآخذ، لهذا كان أحدهم إذا أرادَ أن يُشنِّع على صاحبه، طلبَ حاجته من غيره!
كانَ طلحةُ بن عبدِ الرحمن بن عوف أجود قُريش في زمانه.
فقالتْ له زوجته يوماً: ما رأيتُ قوماً أشد لُؤماً من أصحابك!
فقالَ لها: ولِمَ ذلك؟
فقالتْ: أراهم إذا اغتنيْتَ لزموكَ، وإذا افتقرتَ تركوك!
فقالَ لها: هذا واللهِ من كرمِ أخلاقهم! يأتوننا في حالِ قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حالِ عجزِنا عن القيامِ بحقهم!
وعلَّقَ الإمامُ الماوردي على هذه القصةِ في كتابه الرائع «أدب الدنيا والدين» قائلاً:
اُنظُرْ كيف تأوَّلَ بكرمه هذا التأويل حتى جعلَ قبيحَ فِعلهم حسناً، وظَاهِرَ غدرهم وفاءً، وهذا والله من سلامةِ الصدر!