+ A
A -
الإدارة العقلانية للموارد، والمعايير المهنيّة، ومقاييس الإنتاجية والنجاعة، وخدمة الصالح العام من جهة، والحرص على رفاهية المواطن، وتأهيله للعمل المنتج والمفيد، وتنشئته ليجد معنى لحياته في خدمة وطنه ومجتمعه، من جهة أخرى. كانت هي العناوين الرئيسية لخطاب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى في افتتاح دور الانعقاد العادي الثاني والأربعين لمجلس الشورى. أما التفاصيل فكانت غنية، إذ رسمت ملامح مرحلة من المؤمل أنها ستكون علامة فارقة، بكل ما تعنيه الكلمة، في تاريخ قطر الحديث، أساسها وعنوانها الرئيسي المواطن، كيف لا وقد سخَّـــرت قيادتنا الحكيمة كل إمكانياتها للنهوض به وتذليل جميع العقبات التي يمكن أن تحد من انطلاقته على طريق البناء والعطاء. في هذه التفاصيل يمكن التوقف عند الملامح المهمة التالية التي جاءت في خطاب سمو الأمير: - التعامل مع ثرواتنا واقتصادنا بمسؤولية، وهذا لا يتعلق بالجيل القادم فحسب، بل بنوع الإنسان الذي نعمل على تنشئته في الحاضر.. هل هو إنسان منتج.. أم هو إنسان مستهلِــــك فحسب؟ - زيادة المخصص للإنفاق على التعليم وتطويره، ولقد شكَّـــل الإنفاق على التعليم ما نسبته 13.4 % من إجمالي الموازنة لهذا العام، وما يعادل 3.8 % من إجمالي الناتج المحلي، وسوف نعمل على الاستمرار في الإنفاق على البحوث والتطوير والتوسع في نظام القسائم التعليمية، وبرامج الابتعاث والتدريب، وتحسين جودة العملية التعليمية. فالتعليم هو قاطرة التقدم. - في المجال الصحي تضمنت موازنة العام المالي 2013-2014 زيادة قدرها 13 % لتحقيق مستويات أفضل من الخدمات الصحية، كما اعتُمِدت استراتيجية الرعاية الصحية الأولية لتصبح أولوية وطنية للارتقاء بالمنظومة الصحية، ومضاعفة عدد المراكز الصحية في الأعوام الخمسة المقبلة مع التوسع في الخدمات الطبية وتنوّعها وعلى الأخص الخدمات الوقائية. كما أُطلِقت المرحلة الأولى من نظام التأمين الصحي الاجتماعي هذا العام الذي من المفترض أن يغطي المواطنين كافة مع بداية سنة 2016. التعليم والصحة إذاً أساس البناء الصحيح للمواطن، لكن ذلك ليس كل شيء، إذ أن العبرة تبقى في النتائج، لذلك سمعنا سموه يشدد على أنه لا يجوز أن نخدع أنفسنا. فهذا أسوأ من خداع الآخرين، لأن مَــــن يخدع نفسه يسد أمام نفسه الطريق لإصلاح الأخطاء. ومعيار النجاح في مجالات التنمية البشرية من صحة وتعليم وثقافة ورياضة وغيرها لا يُــــقاس بحجم الاستثمار فحسب، ونحن لن نقصّر في هذا إن شاء الله، بل تكمن العبرة في العمل بنجاعة وإخلاص، وفي المُخرجات والنتائج. أيضاً هذا ليس كل شيء، فلقد أراد سمو الأمير المفدى أن يعيدنا إلى ينابيع العطاء الصافية عندما تحدث عما عُــــرف به القطريون من قديم الزمان: حُــــسن أخلاقهم وكرمهم وتواضعهم، وإقلالهم الكلام وإكثارهم العمل، ونصرتهم المظلوم. هل هناك ما هو أعظم لبناء المواطن المعطاء من تأمين أفضل ظروف التعليم والعناية الصحية، ثم التركيز على أن ينهل من نبع العقيدة والأصالة والقيم والموروث الجميل؟! هل هناك ماهو أعظم من تذليل كل العقبات التي تعترض طريقه لينعم بالرفاه والاطمئنان ويلتفت إلى المشاركة الفعالة في بناء وطنه وازدهاره؟! أيضاً، وأيضاً ذلك ليس كل شيء، فلقد تحقق الكثير في السنوات الماضية على طريق التنمية وبناء المؤسسات، وعلى صعيد تقدم المواطن القطري. لكن سمو الأمير أشار بوضوح وشفافية إلى أنه لا يمكن أن تُــــنفَّــــذ سياسة تنمية بشرية إذا كنا لا نحاسب على التقصير، أو سوء الإدارة، أو الفساد. مَــــن يعمل يخطئ، والامتناع عن المبادرة والعمل ليس حلاً، ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال الاستخفاف بمعايير العمل، أو مكافأة مِــــن يستخف بها بدلاً عن محاسبته. وفي هذا السياق أشار سموه، حفظه الله، إلى ضرورة عدم الانزلاق إلى التبذير غير المسؤول فهو من مكوّنات شخصية الإنسان الذي نريد. قال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً»، صدق الله العظيم. وهنا ركز سموه على أهمية دراسة الأسباب التي ترفع تكلفة بعض المشاريع في دولة قطر بشكل لا يتلاءم مع التكلفة والربح والعرض والطلب. والبحث في سبب ارتفاع تكلفة العقارات والتخزين، وسوء الإدارة الذي يؤدي إلى التغيير المتواتر في مواصفات المشاريع على حساب الدولة، أو في تأجيلها والمماطلة في تنفيذها، ثم القيام بتنفيذها على عجل، وبشروط أسوأ تزيد من الكلفة. لقد حققت قطر خلال السنوات الماضية الكثير من الإنجازات، لكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة لسمو الأمير: يجب ألا نغفل عن بعض الظواهر السلبية التي قد تصاحبها وأهمها مشكلة التضخم. فلقد صاحب معدلات النمو المرتفعة والإنفاق الضخم على البنية التحتية ومشاريع التطوير وما واكبها من زيادة في عدد السكان، زيادة في الأسعار، ولا شك أن للتضخم آثاره السلبية على النمو وعلى المجتمع، ولذلك فإن ارتفاع الأسعار مشكلة تقلق الجميع وستعمل الحكومة على احتوائها بكافة السبل والأدوات المتاحة، وأخص بالذكر السياسات النقدية والمالية، ومحاربة الاحتكار، وتشجيع التنافسية، ووضع جدول زمني مناسب للاستثمار في المشاريع الكبرى، والتنسيق بينها حتى لا تتركز في فترة زمنية قصيرة تؤدي إلى الضغط على القدرات الاستيعابية المتوفرة، ولقد شُـــكِّـــــلت لجنةٌ حكوميةٌ لغرض اقتراح الحلول اللازمة للسيطرة على أية ضغوط تضخمية، داخلية أو خارجية. هذا نبأ سارٌ آخرٌ، فلم يكتف سمو الأمير المفدى بالتنويه إلى المشكلات، وإنما تحدث عن آليات لحلها ومن ذلك تشكيل لجنة لغرض اقتراح الحلول اللازمة، مع إشارة سموه إلى دور الأفراد ومنظّمات المجتمع المدني وغرفة تجارة وصناعة قطر في العمل متكاتفين على تجنب أية زيادات غير مبررة في الأسعار، فالمسؤولية مشتركة، ودور تلك الجهات لا يقل أهمية عن دور الدولة في هذا السبيل. هذه هي ملامح المرحلة المقبلة على الصعيد الداخلي، وهي مطمئنة ومشجعة، ولاشك أنها ستسفر عن منجزات كبيرة سوف تفوق حجم التوقعات، لكن ذلك يحتاج إلى تكاتفنا جميعاً لتحقيق ذلك، كل في موقعه، لأن بناء الأوطان يحتاج، بالإضافة للنيات الطيبة، إلى السواعد والعقول. الخطاب السامي خريطة طريق لمرحلة جديدة في عمر وطننا الغالي، ترتكز على بناء المواطن المسلح بالعقيدة والعلم والمعرفة، وبهذا فهو القادر على تحقيق وترجمة الآمال العريضة لمستقبل بلدنا، لذلك كان تأكيد سمو الأمير على ضرورة العودة إلى موروثنا الجميل وإلى ما عُــــرف به القطريون من قديم الزمان وضرورة نقل هذه القيم إلى شبابنا، خاصة في ظروف الحياة الاستهلاكية التي يعيشها العالم بأسره، وقطر جزء فاعل ومؤثر فيه، قامت سياستها الخارجية دائماً على أساس من مبادئ التعايش السلمي، والتعاون مع كافة الدول والشعوب، والاحترام المتبادل، وتعزيز المصالح المشتركة، وتوطيد الأمن والسلم الدوليين، لذلك جاء تأكيد سموه على أن دولة قطر عملت على الوصول إلى رؤية مشتركة للعديد من القضايا المطروحة على الساحة العربية، مشيراً إلى أننا كنا دائماً قريبين من نبض الرأي العام العربي وتطلعات الشعوب العربية للعدالة والكرامة، وفي هذا السياق جاء التزام سموه الحازم حيال الشعب السوري في محنته: لن نتخلّى عن الشعب السوري الشقيق الذي أصبح يدافع عن كرامته ووجوده على أرضه، وليس فقط لتحقيق الحرية والعدالة. ولا يجوز أن يحاول أحد الاستعاضة عن تحقيق العدل لهذا الشعب الذي دفع أبهظ الأثمان وسجل سطوراً من البطولة والعزة، بمفاوضات غير مشروطة وغير محددة زمنياً، ولا تقود إلى شيء.. مشيراً إلى أن هذا الشعب لم يقم بثورته ويتحمل ما لا طاقة للبشر باحتماله من أجل نزع الأسلحة الكيماوية للنظام الذي يحكمه، بل للتخلص من حكم لا يتورع عن استخدامها ضد شعبه. وهنا جاءت إشارة سموه إلى أن عجز المجتمع الدولي عن التصدي لنظام ارتكب ومازال يرتكب جرائم ضد الإنسانية، وعجزه حتى عن اتخاذ قرارات ملزمة توقف سفك الدماء، بسبب استخدام حق النقض في مجلس الأمن من بعض الدول، وشلها بذلك لقدرة المجلس على اتخاذ القرارات المناسبة يستدعي ضرورة الإسراع في تحقيق إصلاح شامل لمنظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبغير ذلك الإصلاح ستفقد الشعوب ثقتها في الشرعية الدولية التي يتعين أن تعمل على تحقيقها. كما جدد سمو الأمير مواقف قطر الثابتة من القضية الفلسطينية التي تظل محور اهتمام السياسة العربية والخارجية بشكل عام.. مشيراً إلى أن مَــــن يتحمل المسؤولية الأساسية عن استمرار القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين دون حل هو التعنت الإسرائيلي، ومواصلة الحصار الجائر على قطاع غزة وسياسة الضم والاستيطان، وإلى الانقسام الفلسطيني الذي يشكّل عاملاً أساسياً في إضعاف الموقف الفلسطيني وإفساح المجال لإسرائيل لتصعيد سياستها العدوانية في ظل انشغال العرب والفلسطينيين بخلافاتهم. الخطاب السامي لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى قدم الجواب الشافي حيال كل شيء، داخلياً وخارجياً، إنه علامة مضيئة في تاريخ قطر رسمت ملامح مرحلة وحددت لها خريطة طريق لاستكمال مسيرة الخير والعطاء بقدر كبير من الثقة والشفافية مع تركيز لافت على القيم والعادات الأصيلة مقرونة بالعلم والمعرفة للوصول إلى ما نتوق إليه جميعاً في سبيل رفعة وطننا ورفاه مواطننا. عبدالرحمن القحطاني