أما قبل:
اللغة كائن حيَّ، وعندما أقول كائناً حيّاً، فإني أقولها على سبيل الحقيقة لا المجاز! فكما للكائنات الحيَّة أطوار ثلاثة تمر بها، هي الميلاد والحياة والموت، هكذا هي اللغات تولد وتعيش وتموت! على أن فترة حياتها مرهونة بمدى رعاية الناطقين بها لها، وكما الكائنات الحية تتأثر بمحيطها، كذلك اللغات، فالتلاقح بين اللغات أمر حتميّ، لم تنجُ منه لغة، ولو نجت منه لغة لكانت العربيَّة، ولكن هذا لم يحصل أبداً، حتى في عصر الجاهليين العرب الفصّاح الأقحاح، فقد عرَّبوا كثيراً من المفردات الأعجمية وكذلك أخذت اللغات الأخرى منهم، وبما أنَّ اللغة هي المادة الخام للأدب، وهي القماش الذي يُحاك منه النصوص والقصائد، كان لزاماً إذا تغير القماش أن تتغير الأثواب المُحاكة منه!
أما بعد:
لو أخذنا معلقة عمرو بن كلثوم، وجدارية محمود درويش وأردنا أن ندرس الفوارق بين القصيدتين، لبدا لنا أول الأمر أن القصيدة الحديثة ليست بنت القصيدة القديمة، فعناصر الاختلاف لا توحي بعلاقة الأمومة تلك، فالقصيدة الحديثة البنت لقيطة بالنسبة للقصيدة القديمة الأم، وهذا عائد إلى أننا نتجاهل كل ما لحق بالقصيدة العربية من تغييرات طوال الزمن الممتد بين ميلاد القصيدتين، ولكننا لو تتبعنا التغيير الذي كان يحدث بطيئاً في هيكلة القصيدة العربيَّة في كل عصر، لعرفنا أن القصيدة الحديثة كانت محكومة أن تصل إلى الشكل الذي وصلت إليه اليوم، فكما لا يمكن المقارنة بين عربيِّ الجاهلية وعربيِّ اليوم دون اعتبار الزمن الفاصل بينهما، كذلك لا يمكن تجاهل عامل الزمن في المقارنة بين النتاج الأدبي القديم والحديث!
التجديد في الأدب العربيَّ لم يحصل دفعة واحدة، وإنما تغيَّر بطيئاً عبر الزمن، وهذا التغير البطيء جعل عوامل الاختلاف اليوم بين القصيدة القديمة والحديثة أكثر من عوامل الالتقاء!
كانت القصيدة الجاهلية موسوعية المضمون، نجد فيها الغزل والفخر والهجاء والخمر والصيد والحرب والرثاء، وأول تغيير طرأ على القصيدة العربية هو أنها تخلصت من هذه الموسوعية في المضمون، فالقصيدة في صدر الإسلام وبداية العصر الأموي، عرفت المضمون الواحد، فلم تعد متشعبة في المضامين والمواضيع التي تتناولها، إضافة إلى تأثير الإسلام على تلك المضامين، حيث خبا ذكر الخمر، وقلَّ الهجاء خصوصاً في عصر الراشدين، وقد سجن عمر الحطيئة بهجائه للزبرقان، بالإضافة لترسيخ مفهوم أن الناس سواسية ومعيار التمايز بين الناس التقوى، فقلَّ منسوب الفخر بالأنساب والقبائل، لأنها بعرف الدين الجديد من دعوى الجاهلية، أما في العصر الأموي، فصرنا نشهد تخصصات شعريَّة، فعُرف الشعراء بلون شعري واحد طغى على قصائدهم، عمر بن أبي ربيعة في الغزل الإباحي، وجميل بن معمر في الغزل العذري، وهذا التصنيف لم يكن معروفاً في الجاهلية، فلا يمكن رد شاعر إلى غرض شعري واحد! ولكن القصيدة في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي رغم هذا التجديد حافظت على استقلالية البيت الشعري، وعلى وحدتي الوزن والقافية.
في العصر العباسيّ شهدنا ثورة على هيكلية القصيدة الجاهلية، فقد كان الوقوف على الأطلال لازمة في القصيدة الجاهلية، ولكن الشعراء العباسيين وصل بهم الأمر حدَّ السخرية من هذه اللازمة، وقد قال أبونواس ساخراً من امرئ القيس إذ دعا صديقه أن يقفا باكيين على ذكرى حبيب ومنزل، وقال:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً من ضرَّ لو كان جلس.
وإن كانت القصيدة الأموية حافظت كأختها العباسية على مقومات القصيدة الجاهلية الملتزمة وزناً وقافية وروياً واحداً، إلا أنها كانت ثورة في المضامين، متأثرة بصراعات الفرق السياسية، والسجالات الفكرية، دون أن ننسى أثر حركة الترجمة والتعريب التي بلغت ذروتها زمن المأمون، الذي كان يعطي وزن الكتاب المترجم ذهباً، فظهرت مفردات جديدة إضافة إلى المضامين الشعرية الجديدة!
أما التجديد الأول في الوزن الذي كان المساس به من محرمات العصور السالفة، فكان في الأندلس، وإن سار الأندلسيون يقرضون شعرهم على بحور القدماء، إلا أنهم استحدثوا الموشحات، وجعلوا لها مفاتيح وأقفالاً وهذا لم تعرفه القصيدة العربيَّة من قبل، ويمكنني أن أدعي بجرأة أن الموشح الأندلسي هو الأب الشرعي للقصيدة الحديثة!
وفي العصور اللاحقة استمرت السنوات تدور واستمر تغيّر القصيدة معها شكلاً ومضموناً إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، فإذا قارنا بين جدارية درويش ومعلقة ابن كلثوم، فسنعتقد أننا أمام ردَّة أدبيَّة، أما إذا تفهمنا التغيرات البطيئة التي لحقت بالقصيدة العربية على مر السنين فسنعرف أن القصيدة الحديثة وصلت مجبرة إلى الشكل الذي هي عليه اليوم!
بقلم : أدهم شرقاوي
اللغة كائن حيَّ، وعندما أقول كائناً حيّاً، فإني أقولها على سبيل الحقيقة لا المجاز! فكما للكائنات الحيَّة أطوار ثلاثة تمر بها، هي الميلاد والحياة والموت، هكذا هي اللغات تولد وتعيش وتموت! على أن فترة حياتها مرهونة بمدى رعاية الناطقين بها لها، وكما الكائنات الحية تتأثر بمحيطها، كذلك اللغات، فالتلاقح بين اللغات أمر حتميّ، لم تنجُ منه لغة، ولو نجت منه لغة لكانت العربيَّة، ولكن هذا لم يحصل أبداً، حتى في عصر الجاهليين العرب الفصّاح الأقحاح، فقد عرَّبوا كثيراً من المفردات الأعجمية وكذلك أخذت اللغات الأخرى منهم، وبما أنَّ اللغة هي المادة الخام للأدب، وهي القماش الذي يُحاك منه النصوص والقصائد، كان لزاماً إذا تغير القماش أن تتغير الأثواب المُحاكة منه!
أما بعد:
لو أخذنا معلقة عمرو بن كلثوم، وجدارية محمود درويش وأردنا أن ندرس الفوارق بين القصيدتين، لبدا لنا أول الأمر أن القصيدة الحديثة ليست بنت القصيدة القديمة، فعناصر الاختلاف لا توحي بعلاقة الأمومة تلك، فالقصيدة الحديثة البنت لقيطة بالنسبة للقصيدة القديمة الأم، وهذا عائد إلى أننا نتجاهل كل ما لحق بالقصيدة العربية من تغييرات طوال الزمن الممتد بين ميلاد القصيدتين، ولكننا لو تتبعنا التغيير الذي كان يحدث بطيئاً في هيكلة القصيدة العربيَّة في كل عصر، لعرفنا أن القصيدة الحديثة كانت محكومة أن تصل إلى الشكل الذي وصلت إليه اليوم، فكما لا يمكن المقارنة بين عربيِّ الجاهلية وعربيِّ اليوم دون اعتبار الزمن الفاصل بينهما، كذلك لا يمكن تجاهل عامل الزمن في المقارنة بين النتاج الأدبي القديم والحديث!
التجديد في الأدب العربيَّ لم يحصل دفعة واحدة، وإنما تغيَّر بطيئاً عبر الزمن، وهذا التغير البطيء جعل عوامل الاختلاف اليوم بين القصيدة القديمة والحديثة أكثر من عوامل الالتقاء!
كانت القصيدة الجاهلية موسوعية المضمون، نجد فيها الغزل والفخر والهجاء والخمر والصيد والحرب والرثاء، وأول تغيير طرأ على القصيدة العربية هو أنها تخلصت من هذه الموسوعية في المضمون، فالقصيدة في صدر الإسلام وبداية العصر الأموي، عرفت المضمون الواحد، فلم تعد متشعبة في المضامين والمواضيع التي تتناولها، إضافة إلى تأثير الإسلام على تلك المضامين، حيث خبا ذكر الخمر، وقلَّ الهجاء خصوصاً في عصر الراشدين، وقد سجن عمر الحطيئة بهجائه للزبرقان، بالإضافة لترسيخ مفهوم أن الناس سواسية ومعيار التمايز بين الناس التقوى، فقلَّ منسوب الفخر بالأنساب والقبائل، لأنها بعرف الدين الجديد من دعوى الجاهلية، أما في العصر الأموي، فصرنا نشهد تخصصات شعريَّة، فعُرف الشعراء بلون شعري واحد طغى على قصائدهم، عمر بن أبي ربيعة في الغزل الإباحي، وجميل بن معمر في الغزل العذري، وهذا التصنيف لم يكن معروفاً في الجاهلية، فلا يمكن رد شاعر إلى غرض شعري واحد! ولكن القصيدة في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي رغم هذا التجديد حافظت على استقلالية البيت الشعري، وعلى وحدتي الوزن والقافية.
في العصر العباسيّ شهدنا ثورة على هيكلية القصيدة الجاهلية، فقد كان الوقوف على الأطلال لازمة في القصيدة الجاهلية، ولكن الشعراء العباسيين وصل بهم الأمر حدَّ السخرية من هذه اللازمة، وقد قال أبونواس ساخراً من امرئ القيس إذ دعا صديقه أن يقفا باكيين على ذكرى حبيب ومنزل، وقال:
قل لمن يبكي على رسم درس واقفاً من ضرَّ لو كان جلس.
وإن كانت القصيدة الأموية حافظت كأختها العباسية على مقومات القصيدة الجاهلية الملتزمة وزناً وقافية وروياً واحداً، إلا أنها كانت ثورة في المضامين، متأثرة بصراعات الفرق السياسية، والسجالات الفكرية، دون أن ننسى أثر حركة الترجمة والتعريب التي بلغت ذروتها زمن المأمون، الذي كان يعطي وزن الكتاب المترجم ذهباً، فظهرت مفردات جديدة إضافة إلى المضامين الشعرية الجديدة!
أما التجديد الأول في الوزن الذي كان المساس به من محرمات العصور السالفة، فكان في الأندلس، وإن سار الأندلسيون يقرضون شعرهم على بحور القدماء، إلا أنهم استحدثوا الموشحات، وجعلوا لها مفاتيح وأقفالاً وهذا لم تعرفه القصيدة العربيَّة من قبل، ويمكنني أن أدعي بجرأة أن الموشح الأندلسي هو الأب الشرعي للقصيدة الحديثة!
وفي العصور اللاحقة استمرت السنوات تدور واستمر تغيّر القصيدة معها شكلاً ومضموناً إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، فإذا قارنا بين جدارية درويش ومعلقة ابن كلثوم، فسنعتقد أننا أمام ردَّة أدبيَّة، أما إذا تفهمنا التغيرات البطيئة التي لحقت بالقصيدة العربية على مر السنين فسنعرف أن القصيدة الحديثة وصلت مجبرة إلى الشكل الذي هي عليه اليوم!
بقلم : أدهم شرقاوي