أخرج ابن جرير الطبريّ في تاريخه عن وفاة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، أنه كان برفقة الحارث بن كلدة طبيبُ العرب الأشهر، وأنهما أكلا طعاماً أعدّه يهودي، ولما فرغا من طعامهما، شعر الحارث بشيء، فقال لأبي بكر: والذي بعث صاحبك بالحقَّ ما أظننا إلا أكلنا سُمَّ عام!
وبعد عام بالتمام والكمال توفي أبو بكر والحارث في نفس اليوم!
لم أضرب هذه القصة لأستدل بها أن الأطباء قديماً كانوا أمهر، مع أن هذا احتمال لا أنفيه! وإن وُجد قديماً طبيب يفوق آلاف الأطباء اليوم، فلا مجال للإنكار أن الطب اليوم تطور بشكل مذهل شأنه شأن العلوم جميعاً، والتي هي معرفة إنسانية طورتها البشرية على مدى تاريخها الطويل، والأطباء قديماً ليسوا جميعهم الحارث بن كلدة، كان منهم جزّارون كبعض أطبائنا اليوم، فقد كان في بغداد طبيب اسمه نعمان قلما ينجو مريض من تحت يديه، حتى قال فيه الشاعر:
أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه
نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبق بعضَنا
حنانيكَ بعضُ الشرِّ أهون من بعضِ
وإنما ضربتُ هذه القصة لأن الحديث اليوم عن الأطباء، وهي فاتحة حديث ليس إلا، وليس الحديث عن الأخطاء الطبية مع أن هذا موضوع شيّق، وإنما عن أخلاق الأطباء، فهناك تصرفات غير مقبولة، لها علاقة بأخلاقيات المهنة، وهي أشنع من الأخطاء الطبية التي ليست إلا حوادث!
لا أريد طبيباً بمهارة الحارث يخبرني بسُمّ يبقى سارياً في جسدي عاماً كاملاً فأموت بعده عند تاريخ يحدده لي فلا يخطئ، وإنما أريد طبيباً لا يصف لي علاجاً دون أن يطلب مني فحوصات مخبرية بدل أن يجرب عليّ أدويته واحداً تلو آخر، وعندما يطلب مني إجراء فحوصات أريد أن تكون تلك الفحوصات مرتبطة بحالتي لا مرتبطة بالمختبر الذي يتقاضى منه نسبة على الفحوصات التي يطلبها!
وأريد أيضاً إذا وصف لي دواءً أن يكون متعلقاً بحالتي لا متعلقاً بشركة الأدوية التي تعطيه نسبة إذا وصف أدوية تنتجها أو تستوردها!
أريد إذا قصدتُ طبيباً ووصف لي علاجاً فلم يكتب الله لي الشفاء فأقصد غيره ألا يقول لي الطبيب الجديد: من الحمار الذي وصف لكَ هذه الأدوية؟!
لأن هذا ما سيقوله عنه الطبيب الثالث الذي سأذهب إليه بعده، أريد أن يعالجني بأدب إن عرف لي علاجاً وإلا فليكتب لي وصفة ويتلقى عائداً نظيرها دون أن يخبرني أن زميله في المهنة حمار، لأن هذا شيء أعرفه وإلا ما تركت الأول وأتيتُ إليه، فتأدبوا لأن هذا خطأ أخلاقي، فالانتقاص من الآخرين لا يرفعكَ، خصوصاً إذا كنت وكثير من الآخرين بنفس الكفاءة أو قلة الضمير!
وليت الأمور وقفت عند الوصفات الخاطئة، وقع صديق لي من شرفة منزل، فنزع الطبيب له طحاله، ثم تبين أنه كان بالإمكان الإبقاء عليه، وعندما تمت مراجعة الطبيب علّق قائلاً: الطحال أساساً ليس عضواً حيوياً وبإمكان الإنسان أن يعيش دونه!
ذكرني هذا الطبيب بالميكانيكي الذي كلما أصلحت سيارتي أبقى مجموعة من البراغي عنده، وإذا سألته أخبرني أنها ليست ضرورية وبإمكان السيارة أن تعمل بدونها، يريد الطبيب إقناعي أن الله خلق الطحال في جسم الإنسان كنوع من الديكور لتزيين البطن، كما يريد الميكانيكي إقناعي أن شركة هوندا عندها براغي كثيرة وأرادت أن تتخلص منها فدستها في سيارتي فقام مشكوراً بتخليصي من هذا التبذير في البراغي!
الطب رسالة قبل أن يكون مهنة، ولا يمكن لرسالة أن تُؤدى دون أخلاق، فإذا كان من حق الطبيب أن يسعى إلى الثراء مثلنا جميعاً، فليس من حقه أن يجمع ثروته من أوجاعنا، الدواء الذي يُصرف وهو ليس مناسباً لوضع المريض ما هو إلا سُمّ، والمال الذي يتقاضاه الطبيب لقاء هذا السمّ سحت وحرام، والفحوصات التي لا نحتاجها وإنما يحتاج هو عائدها سحت وحرام أيضاً، والاعتراف بالخطأ فضيلة، وإن كان الله قد خلق أعضاءً فينا يمكن أن نعيش دونها لا يعني أن من حق الطبيب أن يقلع عيني لأن لي عيناً أخرى يمكنني أن أتدبر أمري بها، الأعضاء يا سادة لا تنتزع إلا إذا كان بقاؤها يشكل خطراً على حياة الإنسان لا إذا لم نكن نعرف علاجها.
بقلم : أدهم شرقاوي
وبعد عام بالتمام والكمال توفي أبو بكر والحارث في نفس اليوم!
لم أضرب هذه القصة لأستدل بها أن الأطباء قديماً كانوا أمهر، مع أن هذا احتمال لا أنفيه! وإن وُجد قديماً طبيب يفوق آلاف الأطباء اليوم، فلا مجال للإنكار أن الطب اليوم تطور بشكل مذهل شأنه شأن العلوم جميعاً، والتي هي معرفة إنسانية طورتها البشرية على مدى تاريخها الطويل، والأطباء قديماً ليسوا جميعهم الحارث بن كلدة، كان منهم جزّارون كبعض أطبائنا اليوم، فقد كان في بغداد طبيب اسمه نعمان قلما ينجو مريض من تحت يديه، حتى قال فيه الشاعر:
أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه
نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبق بعضَنا
حنانيكَ بعضُ الشرِّ أهون من بعضِ
وإنما ضربتُ هذه القصة لأن الحديث اليوم عن الأطباء، وهي فاتحة حديث ليس إلا، وليس الحديث عن الأخطاء الطبية مع أن هذا موضوع شيّق، وإنما عن أخلاق الأطباء، فهناك تصرفات غير مقبولة، لها علاقة بأخلاقيات المهنة، وهي أشنع من الأخطاء الطبية التي ليست إلا حوادث!
لا أريد طبيباً بمهارة الحارث يخبرني بسُمّ يبقى سارياً في جسدي عاماً كاملاً فأموت بعده عند تاريخ يحدده لي فلا يخطئ، وإنما أريد طبيباً لا يصف لي علاجاً دون أن يطلب مني فحوصات مخبرية بدل أن يجرب عليّ أدويته واحداً تلو آخر، وعندما يطلب مني إجراء فحوصات أريد أن تكون تلك الفحوصات مرتبطة بحالتي لا مرتبطة بالمختبر الذي يتقاضى منه نسبة على الفحوصات التي يطلبها!
وأريد أيضاً إذا وصف لي دواءً أن يكون متعلقاً بحالتي لا متعلقاً بشركة الأدوية التي تعطيه نسبة إذا وصف أدوية تنتجها أو تستوردها!
أريد إذا قصدتُ طبيباً ووصف لي علاجاً فلم يكتب الله لي الشفاء فأقصد غيره ألا يقول لي الطبيب الجديد: من الحمار الذي وصف لكَ هذه الأدوية؟!
لأن هذا ما سيقوله عنه الطبيب الثالث الذي سأذهب إليه بعده، أريد أن يعالجني بأدب إن عرف لي علاجاً وإلا فليكتب لي وصفة ويتلقى عائداً نظيرها دون أن يخبرني أن زميله في المهنة حمار، لأن هذا شيء أعرفه وإلا ما تركت الأول وأتيتُ إليه، فتأدبوا لأن هذا خطأ أخلاقي، فالانتقاص من الآخرين لا يرفعكَ، خصوصاً إذا كنت وكثير من الآخرين بنفس الكفاءة أو قلة الضمير!
وليت الأمور وقفت عند الوصفات الخاطئة، وقع صديق لي من شرفة منزل، فنزع الطبيب له طحاله، ثم تبين أنه كان بالإمكان الإبقاء عليه، وعندما تمت مراجعة الطبيب علّق قائلاً: الطحال أساساً ليس عضواً حيوياً وبإمكان الإنسان أن يعيش دونه!
ذكرني هذا الطبيب بالميكانيكي الذي كلما أصلحت سيارتي أبقى مجموعة من البراغي عنده، وإذا سألته أخبرني أنها ليست ضرورية وبإمكان السيارة أن تعمل بدونها، يريد الطبيب إقناعي أن الله خلق الطحال في جسم الإنسان كنوع من الديكور لتزيين البطن، كما يريد الميكانيكي إقناعي أن شركة هوندا عندها براغي كثيرة وأرادت أن تتخلص منها فدستها في سيارتي فقام مشكوراً بتخليصي من هذا التبذير في البراغي!
الطب رسالة قبل أن يكون مهنة، ولا يمكن لرسالة أن تُؤدى دون أخلاق، فإذا كان من حق الطبيب أن يسعى إلى الثراء مثلنا جميعاً، فليس من حقه أن يجمع ثروته من أوجاعنا، الدواء الذي يُصرف وهو ليس مناسباً لوضع المريض ما هو إلا سُمّ، والمال الذي يتقاضاه الطبيب لقاء هذا السمّ سحت وحرام، والفحوصات التي لا نحتاجها وإنما يحتاج هو عائدها سحت وحرام أيضاً، والاعتراف بالخطأ فضيلة، وإن كان الله قد خلق أعضاءً فينا يمكن أن نعيش دونها لا يعني أن من حق الطبيب أن يقلع عيني لأن لي عيناً أخرى يمكنني أن أتدبر أمري بها، الأعضاء يا سادة لا تنتزع إلا إذا كان بقاؤها يشكل خطراً على حياة الإنسان لا إذا لم نكن نعرف علاجها.
بقلم : أدهم شرقاوي