+ A
A -
(تَجِدُ نَفْسَكَ أنتَ مَهْما أَضْنَاكَ حُبُّها تقول لها وأنتَ تَهْذِي بِاسْمِها: «سَلاماً مُعَذِّبَتِي»)
(إنه الحُبّ، والحُبُّ أعمى، الحُبُّ لا يحتاج إلى إذنٍ منك حتى يَسْتَوْطِنَ ويَسُودَ ويُسَلْطِنَ.. وللحُبّ سُلْطان)
(المدينة! المدينة الساكنة في القلب! المدينة التي تسحرك، فتنفعل بها وتتفاعل معها كأنها قلب نابض وليست حجارةً وطوباً (جدرانا قابلة للتداعي وسقفا آيلاً للسقوط).
مدينة بحجم الكَفّ (مقارنة مع المدن الكبرى) يمكن أن تربطك بها ربطا فلا يسعك يا عاشقها التنفس خارج حدودها.
لِنَأْخُذْ «أسمرا» على سبيل المثال:
«أسمرا!
أخذت بكياني كله تلك المدينة.. بسيطة، كأول يوم في هذه الدنيا.. شهية مثل رائحة أول رغيفة.. بواحة، مثل الحُبّ إذا بلغ المدى.. جموحة، صعبة المراس مثل فرسة بكر تركض في البرية» (هاشم كرار).
فهل كل المدن على شاكلة أسمرا؟!
أم أن أسمرا تختزل وتختزن في رحمها كُلَّ المدن؟!
للمدن سحر خاص: تبهرك هذه بجمالها، وتسحرك هذه بأناقتها على امتداد قفاطينها الخضراء والزرقاء.. وتأسرك الأخرى أَسْراً ببساطتها حدّ الزُّهْد إلا في كرم أهلها وَجُودِهم الْمُذَكِّر بزمن حاتم الطائي..
ومن هنا تَيَّمَتِ الشعراءَ مُدُنُهم، أو مُدن دون غيرها، فعشقوها حدّ الوَلَه.
فهذا شاعر سوريا الأول نزار قباني الذي بنى صرحا شعريا لا يُضَاهى يقول في حُبّ دمشق مدينته في «القصيدة الدمشقية»:
«هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أُحِبُّ وبعـضُ الحُـبِّ ذَبَّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرّحْتُمُ جسدي
لسـالَ منهُ عناقيـد وتفـّاحُ
و لو فتحـتُم شراييني بمديتكـم
سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا
وما لقلـبي– إذا أحببـتُ- جـرّاحُ
..
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تُعَانِقُـني
و للمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
..
هُنا جُذوري هُنا قلبي هُنا لُغَـتي
فكيفَ أوضحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟» (نزار قباني)
بهذا الفيض الوجداني الحالِم يمضي الكبير نزار في البوح بمعشوقته (معشوقة من غير لحم ودم)، معشوقته دمشق التي لا يكفُّ عن التغزل بـها وقد انساب عشقه لها في أشعاره كالشلال وتَدَفَّقَ كالنهر.
شعراء آخرون لا مجال لحصرهم (والمقام هذا) عشقوا مدنَهم (أو مُدُنا دون غيرها) كما يعشقون صَبِيَّةً وأكثر، فأجادوا الوصفَ والتفصيلَ، بل مَهَرُوا (من المَهارة) وأَبْهَرُوا.
ومن أكثر المدن التي شهدت بذخا شعريا فريدا من نوعه تأتي بغداد، بغداد التي ظَلَّتْ باقيةً تتمدد على سرير الشعر، فكتب عنها الكثيرُ بأقلام ثَمِلَةٍ من فرط ارتشاف أصحابها لكأس العشق التي.. والتي..
يقول المتنبي مستعرضا وَلَهَهُ ببغداد:
«من أسكن الشاعر الولهان موطنه
بغداد أنت نجوم الليل والظلمِ
بغداد أنت شفاء العين من رمدٍ
بغداد أنت لقاء الله بالأممِ
طردتُ منك لكن لا أودعك
بغداد أنت انبراء الروح من سقمِ
..
بغداد أنت دواء القلب من عجزٍ
بغداد أنت هلال الأشهر الحرمِ
بغداد أنت هوى العصفور مهجته
كالريح تعزف ألواناً من الحلمِ» (المتنبي).
ومن أجمل ما قيل في بغداد:
«فدى لك يا بغداد كل قبيلة
مِن الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها
وسيرت رحلي بينها وركابيا
فلم أرَ فيها مثل بغداد منزلا
ولم أرَ فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا
وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا».
وهذا الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد يقول في حُبّ بغداد:
«دَمعٌ لبغداد.. دَمعٌ بالمَلايينِ
مَن لي ببغداد أبكيها وتبكيني؟
مَن لي ببغداد؟.. روحي بَعدَها يَبسَتْ
وَصَوَّحتْ بَعدَها أبهى سناديني ..
والشعرُ بغداد، والأوجاعُ أجمَعها
فأنظرْ بأيِّ سهامِ المَوتِ ترميني؟!
عدْ بي لبغداد أبكيها وتبكيني
دَمعٌ لبغداد.. دَمعٌ بالمَلايين» (عبدالرزاق عبدالواحد).
المدينة!
المدينة الساكنة في القلب العامر بحسِّها!
المدينة تلك التي تسحرك، فتنفعل بها وتتفاعل معها كأنها قلب نابض وليست حجارة وطوبا (جدرانا قابلة للتداعي وسقفا آيلا للسقوط).
المدينة هذه حتى لو لم تكن ترقى في الحقيقة إلى مستوى تطلعات الآخرين، فإنها تسلبك عقلَك وروحَك إلى أن يُضْنيك حُبُّها.
فهل يتعلق الأمر فقط بالمدينة التي تشكل للواحد منا مسقطَ رأسه امتثالا لمن ضمَّ صوتَه إلى صوت الشاعر:
«نَقِّلْ فُؤَادَك حيث شئْتَ من الهوى
ما الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ
كَمْ منزل في الأرض يألفُه الفتى
وحنينُه أبدا لأول منزلِ» (أبو تمام)؟!
أم هل كل المدن تفعل ذلك؟!
يجيبُنا هاشم كرار بأنها المدن الصغيرة التي تكشف لك أوراقَها كاملة:
«المدن التي لا تلعب معك لعبة (الغُمِّيضة)، وتكشف لك عن نفسها من أول وهلة، كثيرة. أنت تعرف ذلك.. ولأجل ذلك دخلت معها في علاقة حُبّ» (هاشم كرار).
لذلك تجدُ نفْسَك أنتَ مَهْما أَضْناكَ حُبُّها تقول لها وأنتَ تهذي باسمها: «سَلاما مُعَذِّبَتي».
إنه الحُبّ، والحُبّ أعمى، الحُبّ لا يحتاج إلى إذنٍ منك حتى يستوطنَ ويَسُودَ ويُسَلْطِنَ.. وللحُبّ سلطان.
فكيف الحال والمحبوب هذا مدينة صغيرة تُغْريك بتفاصيلها؟!
«تأخذ كياني كله المدنُ الصغيرة. ربما لأنني مغرم بالتفاصيل الصغيرة» (هاشم كرار).
زميلنا وكاتبنا الرقيق هاشم كرار يغزو قلوبَنا برقته وتفننه في استمالتنا إلى عالمه الْمُرْهَف. لم تأتِ هذه الرهافة من لا شيء، ولم نطلق على عالمه هذه الصفة اعتباطا.. فالرجل (هاشم كرار) يُقنعك كل الإقناع برقته وأنت العارِف بمواطن الرقة التي تتجلى وتتمظهر هنا وهناك على امتداد سطور مقالاته في رحاب الوطن.
هاشم كرار يَشدُّك إليه بحنان قلمه وبحكمة أصابعه التي تقول كل شيء (وهو يكتب) لتكشف عن هذا الشيخ الذي يسكنه ويُقيم فيه. لا نقيس صفة الشيخ هنا بالعمر وإنما بضَلاعَة الكاتب في الإحساس والحكمة وهو يكتب (اسم الفاعل: ضَليع).
حين يتأبَّط القلبُ ذراعَ العقل ويمضيان جنبا إلى جنب، تَوَقَّعْ أنتَ الأجملَ والأحلى والأعذبَ والأطيبَ.
هاشم يكتب لك عن معظم ما تحتاج أن تقرأ له، من أكبر قضية إلى أصغر هَمّ. صَدِّقْ أنه يكتب لك حتى عن السيجارة، ليس فقط بحكمة الْمُجَرِّب، وإنما بحكمة من يُحْسِنُ التأمل، ومن ثَمَّ يُلْهَمُ رؤيةَ خاصة للأمور.
هل أفشي لك سِرّا؟
صَدِّق أن الكاتبَ هاشم كرار واحد من النخبة المتميزة التي مهما غَيَّبَتْكَ الأقدارُ عن القراءة لها أوان النشر فإنك تعود مختلسا أذيالَ الزمن لتُنَقِّبَ في جديده من مقالات يحفل بك فيها وهو يكتب لك تماما كما تحفل أنت به وأنتَ تقرأ له.
حين كتب هاشم عن المدينة في مقاله المعنون بـ«أنا مدينة صغيرة»، كنتُ أقرأ له وأنا لا أُخْفِي إعجابي بجَمالِ ما كتبه وصِدْقِ إحساسه الذي لا تخونه العاطفةُ لِيَنْبَجِسَ انْبِجاسا.
تمنيت لو كنتُ أنا من كتب ما كتبه هذا المبدع (هاشم كرار) الذي ألمس في أكثر من مناسبةٍ ومقالٍ بَذَخَ أحاسيسه المرهَفة بما يكتب وزَهْوَ حَرْفِه وثمالةَ روحٍ تسكنه من كثرة معاقرته لكأس المعنى.
لم أقرأ لهاشم كتابَ شعر، لكن نَفَسَه الشعري ما أطيبَه وهو يترنح بين سطور تعبق وَردا وخزامى، فتجعل القارئَ يتعلق كل التعلق بالكثير مما يسطره على جدار الوطن الموفَّقَة بخطها التحريري العارف بكنوز مملكة الفكر والإبداع وأسرارهما ودُرَر سلاطين الحَرف الذين لا يمكنك مقاومة حلاوة حروفهم.
هاشم جاري في الكتابة أثمِّنُ حسَّه الإبداعي الذي مهما حاول تكبيلَه يتملص (حسُّه) ويتحدى الأغلال ليقول للقُرَّاء: «أنا هنا.. أنا موجود».
«بين المدينة والمرأة، شبهة تشابه.. تماما مثل ما بين المرأة، وكل ما في الوجود» (هاشم كرار).
أَطْلِقْ سراحَ مارد الإبداع الذي يسكنك يا هاشم، شخصيا أُصَفِّقُ لماردك الذي لا أظن أنه يحتاج إلى وقت حتى يتمرَّد ويُعْلِنَ حضورَه بقوة.
تمنياتي لك بسفر حالِم في ربوع الشعر والإبداع. فاحْرِصْ على ألا تَحْرِمَ قُرَّاءَك.
بكل الصدق تحية رقيقة لهاشم كرار وقد ألهمني نصُّه ما ألهمني.
«أيها الناس: أنا مدينة صغيرة!» (هاشم كرار).
copy short url   نسخ
20/08/2016
1787