+ A
A -
يَقيناً لم تَكُنِ الظروفُ مُنْصِفَةً للطفل «داني فيتز باتريك» الأصغر من أن يتحمل هَزَّةً في مستوى زلزال أعمال العنف والبلطجة، تلك التي كان يمارسُها مَنْ يتفوقون عليه عمرا وقوة، من باب الاستئساد والاستنسار والتنمر، وما إلى ذلك مما لا يتحمَّلُه صغير مرهف وحَسَّاس من طِينَةِ داني الذي استقوى عليه زملاؤه في المدرسة فلم يَقْوَ على كَبْحِ جماحهم.
السؤال الذي يستحقُّ أن يُطْرَحَ بقوة (والمقام هذا) هو: هل كان داني مُنْصِفاً لنفسه حين فَكَّرَ في الاستنجاد بوصفةٍ أكبر من سنه، وصفة وضعِ حَدٍّ لحياته عن إصرار؟! لكن لماذا قلنا عن إصرار؟! لأن الصغيرَ داني ترك رسالةً (تَمَّ نشرها لاحقا على نطاقٍ واسعٍ بعد موته) يشرح فيها الأسبابَ التي دفعته إلى الإقدام على ما قد أقدم عليه بعد أن استفحلَ الأمرُ فَلَمْ يَعُدِ الصغيرُ يَجِدُ مَخْرَجاً لِمَا يُقاسيه في معزل عن الآخرين.
والحَلُّ في منظور داني؟! إنه «الموتُ الرحيم»، ذاك الذي تَخَيَّلَه الصغيرُ داني خنجرا مُنْقِذاً لَمَّا غَرَزَهُ في صدر روحه الْمُمَزَّقَةِ وهو يستسلم لصفعات مَنْ تَجَرَّأَ على التَّوَاطُؤِ ضِدّه مِنْ هؤلاء القَتَلَة. قتلوه في صمتٍ (أو لِنَقُلْ إِنَّهُم قتلوه شيئا فشيئا ممارسين عليه سادِيتهم وهم يتلذذون بتعذيبه)، فَتَقَبَّلَ هو الْمُعَذَّبُ (الصغيرُ على العذاب) هذه الصفعاتِ تباعا، ولم ينتشلْه من مُحيطها الدَّامي (نفسيا على وجه الخصوص) سوى قراره بالتعلق بحبل الموت الرحيم طلباً للنجاةِ مِنْ حياةٍ لم تُهَيِّئْ له مُواصفاتِ العيش الكريم ولم تَحْفَظْ لكرامته وإنسانيته حَقَّهما.
يا لقسوة القَدَر! أهذا هو الخلاص الذي بحث عنه داني لرفع صخرة قَدَرِه القاسي عن ظهره؟! أم أن هذه الخطوة التي قَطَعَها داني مُغمض العينين كانت رحمةً بِنَفْسِه التي كانت تَصرخُ في صمتٍ على امتداد دواخله الجريحة: «ما عُدْتُ أَتَحَمَّلُ.. ما عُدْتُ أتحمَّل.. ما أَذَلَّني يا داني! تَحَرَّكْ يا داني وَضَعْ حدّاً لِكُلِّ هذا العذاب.. ما عُدْتُ أتَـ...حَـ...مَّـ...لْ..»؟!
ما أوجع صرخة الروح إذا لم يُتَرْجِمْها الفَمُ! وهنا مربط الفرس، لماذا؟ لأن داني تَصَوَّرَ أن الحَلَّ في يَدِ الْمُعَلِّمَةِ، لكنها (المعلمة) لم تكن في مستوى انتظاره (كما تقول رسالتُه) لأنها لم تحلّ ولم تربطْ ولم تَضَعْ نهايةً للمهزلة التي تحولتْ إلى مأساة، مأساة يليق بِكُلِّ مَنْ هُمْ في موقف داني ومن يحيطون بهم أن يتعلموا منها الدرسَ نظرا لخطورة الوَضْعِ الذي انْتَهَتْ إليه الواقعةُ (الصبيانيةُ كما يبدو لمن لا يهمُّه الأمرُ).
وهكذا أطلق المسكين داني العنانَ لفكرة الموت الرحيم دون أن يدري هو نفسُه إن كان الموتُ الرحيمُ ذاك (الذي ظن داني أن فيه الخلاصَ) وهماً أَمْ حقيقةً. لكنه على الأقل خلاص محقَّق من الضربات الموجِعة التي كانت تَنْكَأُ الجرحَ كلما تراءتِ الظروفُ القاسيةُ للصغير داني سَيْفاً يفارِقُ غِمْدَه كلّ وقتٍ وحينٍ ليرسم في نَفْسِ الصغير داني خريطةَ الوجع كما ترسمها القضبانُ الحديديةُ على جَسَدٍ يُعَذَّبُ كَيّاً.
السؤال بعد كل هذا: أين كان وَالِدَا داني وهو يُجَسِّدُ دَوْرَ البطل في هذه المأساة؟! أَيْنَكُم يا آباء ويا أمهات؟! أينكم؟!..
أسوا حقيقة مُرَّة تَعْتَصِرُ قَلْبَك أن يتخبَّطَ طفلُك يا أنتَ ويا أنتِ في جحيم نارٍ لا ترحمُ وأنتما عنه غافلان، غافلان لا تستشعران حتى وطأة النار على روح صَغِيرِكُما ولا تُبْصِران الدرجةَ الأسوأ من الحروق التي تأكلُ نفسَه الرافضةَ لوجودها في ظل غيابكما المعنوي عنه رغم حُضوركما بجسديكما الذي يعادلُ حُضورَ جُثَّةٍ..
هل الأبوةُ والأمومةُ مجرد توفير للأكل والشرب والملبس والمسكن؟! أين المراقَبة، والمصاحَبة، والمرافَقة النفسية والاجتماعية؟! أين دور المساعِد النفسي والمساعِد الاجتماعي الذي يجدر بالوالدين أن يلعباه لِيُلازِم ظِلَّ صغيرهما حتى قبل أن يحتاج إليه؟!.. اِسْتَيْقِظُوا يا أَنْتُمْ، وَلْتَكُنِ ابْتسامةُ داني البريئةُ صرخةً مُدَويةً في سماءِ صَمْتِكم لِتُنْقِذُوا ما يمكن إنقاذه من أطفال آخرين قبل فوات الأوان.

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
25/08/2016
1493