تعود للآنسة نادية مديرة المدرسة شكوى معلمة الصف الأوّل ومربيته، أسئلة العام الجديد أكثر أولوية، متطلبات رعاية الأطفال وانسجام الجدول، ومواجهة الظروف التي تطرأ على الطلاب أو المدرسة، تدور رحى تلك الانشغالات في بال أ. نادية، لكن الشكوى تُلح عليها.

يا الله..

إنه في الصف الأوّل ما هذه الشكوى الغريبة، لكن لا بد من الفهم ومن التدخل، لإصرار المعلمة، فهي تقول إن الأطفال وهي كمعلمة له منزعجة جداّ من أسلوب استماعه، ومقاربة وجهه لمن يتحدث إليه، وأحياناً يأخذ بأيديهم لالتماس وجهه، أمرٌ غريب..

لعل المعلمة تبالغ.

توجَهَت للفصل ونادت الطفل بلطف، الآنسة نادية متمرسة على مواجهة المشكلات، لكن نوعية هذه الشكوى لم تصل لها من قبل، أكيد أنّ المعلمة منزعجة من سلوك هذا الطفل، ولكن ربما من أمور أخرى.

في حياتي (رددت نادية)..

كثيراً ما انعكست الهموم الذاتية على المعلمين والمعلمات، فضلاً عن جدول عمل المدرسة وضغطه الزمني، اندفع الطفل إليها فأخذت بيده وتحولت إلى مكتبها، حديثُ النفس يعلو من جديد، وكأنهُ يُراجع الشكوى للتوّ، يقترب من وجه من يتحدث إليه! طيب وما يعني ذلك إنه طفل، يتحسس وجوههم بيديه، لماذا يفعل وهو لا يشكو من أي ضعفٍ في بصره، ولا في تجاوبه في التعلم.

كيف حالك حبيبي: أجاب بعفوية وابتسامة، إنه بخير، كان كرسي أ. نادية قد سُحب من مكانه حتى يقترب من الطفل، مع توالي الأسئلة البسيطة قام الطفل وتقدم ناحيتها، كان يتأمل في وجهها بتركيز، بدأت تستشعر شكوى معلمتها، وخاصة حينما يتكرر الأمر، والطفل يبتسم ويرد بأخلاق عالية، ولكنه يقترب أكثر ومع ابتسامته يتحسس وجه المديرة، التي لم تشأ أن تُفزعه أو تنهره، ثم أخذ بيدها إلى قسمات وجهه، انتشر القلق في وجدان أ. نادية، شجعته وأنهت اللقاء بلطف، وأعادته بنفسها للصف.

توجهت لها المعلمة عند باب الصف، وكانت أنظار الأطفال أيضاً تتجه للمديرة وكأنها تستشعر شيئاً مشتركاً، حول الطفل الغريب، أما المعلمة فقد أقبلت على الآنسة نادية، ولم تنطق، ولكنها شعرت بارتياح وهي تقرأ قسمات وجه مديرتها، لغة النظرات هنا تخاطبت، وكان مفهومها، أن الأمر مقلق وجدّي، وأن الآنسة نادية حين هزّت رأسها، كانت تشير إلى أن الملف أصبح في عهدتها وأنها ستتولى الأمر.

من أين أبدأ؟ لعل هذا الطفل يُعاني من عنف أُسري!

هل أطلب تحويله لعيادة القياس النفسي في المنطقة التعليمية، هل أسعى للتقصي عبر المعلمين المجاورين لمنزل الطفل، لمعرفة ظروفه الاجتماعية، هل أستشير طبيب أطفال نفسي؟

كانت هناك معركة نفسية شرسة تخوضها الآنسة مع قضية الطفل الغريب، ثم همست بشفتيها وقد استوعبت حالة الطفل كل تفكيرها، ولماذا هذا كله، لماذا لا أتابع بنفسي، كتبت خطاباً ودعت مراسل المدرسة، وقالت له: هل تعرف منزل الطفل (الغريب)؟ قال نعم، قالت سلمهم هذا الخطاب، وقل لهم إنهُ دعوة للقاء مديرة المدرسة لسبب متعلق بابنهم.

ذهب المراسل بالفعل وأوصل الرسالة وبلغها شفويا، انشغلت الآنسة نادية ببقية احتياجات وملفات المدرسة، في صباح اليوم التالي وبعد عبور الفترة الأولى، سمعت صوتاً منخفضاً: ممكن نشوف أ. نادية؟

توقعت أنهم هم، نعم إنهما والدا الطفل الغريب، ما هذه العصاة التي تتقدمهما، سيدٌ وقور أنيق الملبس تُمسك بيده الأخرى زوجته، على وجهها قلقٌ كبير لماذا تستدعينا المدرسة، في تلك اللحظة كان الطفل يخرج من الفصل إلى الحديقة فأبصر أبويه.

ركضاً جرى لهما عانق الأم، ثم احتضن أباه تقلب بين يديه، كان الوالد الكفيف يهامسه ويحضنه، وهذا الطفل يقترب من عيني أبيه، بل من عيني قلبه، كان يُلقي بوجهه بين كفي والده الذي يتحسسّه ويطمئن عليه، ويمسح على رأسه، التفت الأب الذي يتدفق رحمة وحباً لابنه، إلى المديرة التي غرقت في دموعها، فقد فسّر لها المسرح الحقيقي كل شيء، آنسة: شو مالو نور، نعم أنا رجل ضرير ولكني أبصره بقلبي فهو روحي وروح أمه.

تماسكت ثم ردت: لا لا..

نور مؤدب ومتفوق حبينا نشكره ونكرّمه أمام أبويه، انصرف المسرح بسعادة كبيرة لأبويه ولنور، الذي وجد السعادة في كف أبويه، ولكن الدرس الكبير، كان يعيش في وجدان الآنسة نادية، إنه الحب الفطري الأبوي، نعم تطبّع نور ببعض الصفات بسبب أداة التعبير التي خلقها والده الضرير، سيوجه سلوكه بكل لطف، لكنه سيبقى في جنة الرحمة الأبوية التي تحاربها الراديكالية النسوية والجاهلية الاجتماعية، اللهم رحماك رحماك بالفطرة الإنسانية.