بقلم:د. علي عفيفي علي غازيكاتب وباحث مصري
خطاط من أبرز الخطاطين في القرن التاسع عشر الميلادي، وهو ابن عبد القادر النابلسي أفندي من سلالة الصحابي تميم الداري، لذا كان يوقع أعماله بعبارة «عبد الله زهدي التميمي». وُلد في بلاد الشام عام 1252هـ/‏ 1835م، ومسقط رأسه مدينة نابلس في فلسطين.
انتقلت عائلته وهو صغيرًا للعيش في إستانبول عاصمة الدولة العثمانية، فكان هذا الانتقال إيذانًا ببزوغ نجم كبير في سماء فن الخط العربي، في عاصمة هذا الفن حينئذ، وحقق شهرة واسعة جاءت من خطوطه الخالدة، التي سطرها على جدران الحرمين الشريفين، والتي تدل على عبقريته.
منذ أن تفتحت عينيه على الحياة، بدأ ميله واضحًا للفنون عامة، وفن الخط العربي بخاصة، فتعلم الخط العربي بتشجيع من والده على يدي الحافظ رشيد أفندي الأيوبي (ت. 1292هـ/‏ 1875م)، ثم على يدي الخطاط الكبير قاضي العسكر مصطفى عزت (ت. 1293هـ/‏ 1876م)، الذي يعتبر أستاذه الحقيقي، وخاصة في خطي الثلث والنسخ، وتشير المصادر إلى أنه كان يُجيد كذلك فن الرسم، ولعل هذا ما ساعده كثيرًا في إبداعه في فن الخط العربي، وبخاصة في تراكيب الثلث الجلي، التي كان متميزًا فيها.
وبعد إجازته من أستاذه عمل مُعلمًا لفن الخط العربي في مدرسة جامع «نور عثمانية» وكذلك في مدرسة «المهندس خانه البرية الملكية»، واختاره السلطان العثماني عبد المجيد الأول (1839-1861)، لكتابة خطوط المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة، من دون كبار الخطاطين، الذين كانت تذخر بهم عاصمة الخلافة آنذاك، وعلى الرغم من صغر سنه. ويُعد هذا الأمر من أهم المحطات في حياته، ولذلك لقب «خطاط المسجد النبوي»، وقد تراوحت المدة التي استغرقها في كتابة خطوط الحرم النبوي ما بين سبع وثلاث عشرة سنة، والتي شملت جدرانه ومحرابه وقبابه، والتي تدل على عبقريته في فن الخط العربي.
ولاختيار عبد الله زهدي لكتابة خطوط المسجد النبوي الشريف قصة، إذ طلب السلطان من وزرائه أن يحضروا له أعمال الخطاطين في ذلك الوقت، ليُعاينها بنفسه ويُفاضل بينها، ولما كان زهدي حينئذ صغير السن، تردد كثيرًا في تقديم أعماله، إذ كان معاصرًا له عدد من جهابذة الخط العربي، ومنهم مصطفى عزت، عبد الفتاح أفندي، راسم أفندي، إلا أن صديقه أخذ إحدى لوحاته من دون علمه، وبينما كان السلطان يتفحص اللوحات بعناية ودقة شديدة، لفتت انتباهه لوحة عبد الله زهدي، والتي كانت بخط الثلث الجلي، والذي كان يجيده السلطان، فأعجب بها، وطلب مقابلته، فلما رأه شابًا يافعًا، سأله للتأكد: هل أنت من كتب هذه اللوحة؟ فلما أجابه زهدي بالإيجاب، قال له السلطان إني سأذهب بك إلى مكان مهم جدًا، فإن لم تكن أنت من كتب هذه اللوحة فستوقع نفسه في مأزق كبير، فسأله زهدي إلى أين يا مولاي، فقال له السلطان سأرسلك إلى مسجد خير البشر لتطرزه بخطوطك الجميلة، وقد اختلف الباحثون في العام الذي أرسل فيه، فذكر محمد طاهر الكردي في كتابه الخط العربي وآدابه، أنه كان عام 1270هـ/‏ 1854م بينما ذكر مصطفى أوغور درمان في كتاب فن الخط أنه كان في عام 1273هـ/‏ 1857م، إلا أن السلطان من شدة اهتمامه وعنايته بكتابة وزخرفة المسجد النبوي الشريف أرسل معه 25 منشدًا لينشدوا له المدائح النبوية؛ كي يهيئوه نفسيًا؛ ليُبدع غاية الإبداع، كما خصص له 7700 قرشًا عثمانيًا كراتب شهري، وبينما كان يقوم بعمله على قدم وساق، توفي السلطان عبد المجيد، وأثار ضده حساده الدسائس في الديوان الهمايوني، فانقطع معاشه، إلا أنه أصر على استكمال عمله، وقام بجمع التبرعات له حتى أتمه على أحسن وأكمل وجه.
وقد كتب مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، والأشعار التي قيلت في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وساعده مجموعة من الفنانين والمذهبين، ولا تزال خطوطه باقية تدل على براعته في هذا الفن الرفيع، وتشهد بعبقريته، وتُبرز أنه صاحب أكبر قدر من كتابات خط الثلث، ولا يتعداه خطاط آخر في زمنه وحتى يومنا هذا، إذ يزيد طول الشريط الكتابي، الذي كتبه بخط الثلث الجلي عن 2000 متر، منها 240 مترًا على شكل ثلاثة أسطر فوق جدار القبلة، و140 مترًا على رقبة القبة.
وبعد انتهائه من كتابة خطوط المسجد النبوي الشريف، توجه إلى مصر في عام 1866م، حيث استبقاه الخديوي إسماعيل بها، وأوكل إليه مهمة كتابة الخطوط على المساجد والمدارس وغيرها من المباني، وكانت مصر حينئذ تشهد نهضة معمارية تحديثية، وكان له فضل عظيم في نشر فن الخط العربي وتحسينه فيها، وحصل على لقب «خطاط مصر الأول». وعهد إليه بكتابة خطوط سبيل أم عباس ومسجد الرفاعي بالقاهرة، كما كتب الخطوط للدوائر الرسمية، كالأوراق النقدية، وكلفته الحكومة المصرية بكتابة الآيات القرآنية على كسوة الكعبة المشرفة، والتي كانت تجهز في مصر حينئذ، فأبدع فيها أيما إبداع، إذ تميزت كتاباته بالدقة الشديدة، هذا بالإضافة لكتابته للعديد من اللوحات للمساجد والجوامع والمرقعات والأوراد وغيرها مما تحتفظ به المتاحف والمجموعات الخاصة، كما كتب نسخة من القرآن الكريم، وأكثر من نسخة من سورة الأنعام، ومعها بعض سور القرآن الكريم، والأدعية الشريفة، وقصيدة البردة للبوصيري، وأمضى عبد الله زهدي بقية حياته في مصر، وهو يكتب ويُبدع، ويقوم بتدريس فن الخط في المدرسة الخديوية، ليتخرج على يديه الكثير من كبار الخطاطين، وورث مدرسة لها أساليبها الراقية، أثرت على ما تلاها من الخطاطين، حتى وافاه الأجل في عام 1296هـ/‏ 1878م ودفن إلى جوار الإمام الشافعي، بعد حياة حافلة بالعطاء، فانطفأ نجم سطع في سماء الخط العربي. وقد نقش على قبره هذه الأبيات:
مات علم الخط والأقلام قد نكست أعلامها حزنًا عليه
وانثنت من حسرة قاماتها بعد أن كانت تباهي في يديه
ولذا قد قلت في تاريخه مات زهدي رحمة الله عليه