+ A
A -

كاتبة مغربية
*((ذوق أَخَّاذ لا يخطئه الإحساسُ بالتسامي في انتقاءات صاحبته سمر، ذوق لا غرابة أن تُقَدِّرَهُ أنتَ كُلَّ التقدير وتُعْجَب به كُلَّ الإعجاب من أول مبنى إلى آخر معنى)).
*((كيف لا ينساب البوح بريئا وهذا المخلوقُ الرقيقُ الذي يسمى المرأةَ يأبى أن يفارق حضنَ الطفولة الذي ترعرع فيه. لذلك تجد أنتَ المرأةَ في مقام البوح تَتَسَرْبَلُ ببراءتها التي تجعل منها طفلةً. وكذلك سمر تكتب لك عن أَدَقِّ تفاصيلها بقلبِ طفلةٍ (الصدق بيت القصيد)، طفلة تَوَّاقة إلى سرد الحقائق والدقائق بأشهى وأبهى ما في الرِّقَّة من رِقَّة)).
*((هذه الذاكرةُ العصية عن المَحْوِ في قصيدةِ أُنُوثَةٍ حالمةٍ تُجَسِّدُها سمر الأشقر بقلمها المُمْطِر بوحا تختزن الكثيرَ والكثيرَ. تَصَوَّرْ معي كيف لذاكرةٍ أن تَحْيا بكل هذا الزَّهْوِ الخلاق الذي يَجْتَرُّ التفاصيلَ دون أدنى تحسيس لك بالمَلَل أو النُّفور..)).
لِنُصْغِ إلى هذه المعزوفة الشفيفة:
«شِعْر قَصير: أُحِبُّكِ».
هذا الكلام الْمُدْرَجُ بين مزدوجتين ليس لي، وإنما هو نص قصير مقتطَف من حوار بليغ جاء على لسان البطل «أوزغور» ضمن رسالة دامية (من فرط الجرح الغائر بأشواك الحُبّ) ترَكَها لحبيبته «إيليف» وهي على مشارف الموت بسبب المرض الفتَّاك الذي أسقط عرشَ قلبِها الذي لم ينبضْ سوى لحبيبها. إنها نبذة عن قصة الشريط السينمائي التركي الحزين بعنوان «ما تبقى لي منك».
لا شك في أنكم تتساءلون: ما مناسبة إدراجي للجملة الحوارية السابقة (شعر قصير: أحبُّكِ) كمقدمة لهذه الورقة الثقافية؟!
والجواب عند الجميلة القَلم الكاتبة سمر الأشقر.
لكن لماذا سمر الأشقر دون غيرها؟!
لأن سمر الأشقر هي مفتاح قصيدة الأنوثة التي نَويْتُ أن أقف عندها (صُحْبَتَكم) في هذه الورقة.
وهذا يعني أن قصيدةَ الأنوثة الموصوفة في العنوان أعلاه ما هي سوى حِبْر سمر الأشقر المندلِق حُرْقَةً ووجعاً وآهات سواء على أشياء تستحقّ في هذه الحياة أم على من فارق ومات.
يقينا لن تُفَوِّتَ أنتَ فرصةَ قراءتك لبابٍ موسومٍ برِقَّةٍ لا متناهية وأنتَ تفتح صفحةَ اتجاهات ثقافية كل يوم أربعاء. أقصد بابَ «وهذا شيء يُقْلِقُني».
من المؤكد أنكم تعرفونه (هذا الباب) الذي كان سيؤسفنا جميعا غياب صاحبته لولا أنها عادت، وعاد معها حَظّ أكبر من الألق والبهاء اللذَيْن من غير اللائق أن نقول إنهما يشكلان النص الغائب عن عدد من الكتب التي لا نستمتع بقراءتها.
ولذلك كان من الجميل أن ترحب الصفحة الثقافية بعودة الكاتبة إلى قُرَّائها «بعد انقطاع، لأسباب منعتها من التواصل مع قرائها ومواصلة تأملاتها المميزة في شؤون الفكر والشعر والثقافة».
فما مناسبة استحضارنا للجملة الحوارية التي تجعلكَ تذوب ذوبانا في حضرة مَن تُحِبُّ وعيناك تتلقَّفُ شرارةَ حُبٍّ مشتعلةٍ على غرار «شعر قصير: أُحِبُّكِ»؟!
إنها قطرة من بحر الحُبّ الذي تكنُّه سمر الأشقر لغاليتها وحبيبتها الأمّ، الأمّ التي لم تَقْوَ سمر على محوها تدريجيا من ذاكرتها الثقيلة كما لم يَقْوَ النسيانُ نفسُه على إقبار ذكراها.
وإليك الشاهد:
«هربتُ من حزني إلى بيروت، لكنني وجدْتُه معي في كل شارع وكل مقهى، رأيتُه ممددا على رمال البحر، وشامخا على قمة الجبل، رأيته في عيني العذراء وهي تبارك ببياضها الثلجي زوارها من أعلى الجبل، رأيته في غروب الشمس، ورأيته في شحوب القمر. وبكيتُ كثيراً لأن الصبح جاء ولم أُقَبِّلْ جبينَ أمي، ولم أتسللْ إلى المطبخ لأفطر خفية كما كنت أفعل، بكيتُ لأنها لم تعد تنهرني وهي تردد أن اجتماع العائلة على مائدة واحدة هو طقس روحي يلم شمل العائلة ويقوي روابط الحب والاهتمام بين أفرادها، بكيتُ لأني فطرت وحدي في الفندق ولم أُقَبِّلْ يديها ولم أشرب قهوةَ الصباح معها، بكيتُ لأني لم أعد أراها تجلس في مقعدها الوثير بانتظار أبنائها وأحفادها لتمطرهم بالقُبَل وتُبارِك لهم في يومهم بدعاء من القلب» (سمر الأشقر، مقال: أحزان مهرَّبة).
انظُرْ إلى بوحها الملتهب (سمر) الذي يحرقك كشمعة تدمع نارا، شمعة تذوب ذوبانا دون أن تعفيك من المشارَكة وأنتَ العارف بأسرار النار والاحتراق على صفيح الحنين والاشتياق.
الأمّ في كتابات سمر تتمدد ويتجدد حضورُها. الأمّ في بوح سمر هي الأنفاس التي تتنفسها سمر لتحيا وتكتب بهذه الأريحية وذلك الانثيال الحالِم.
الأُمّ في ميثاق الكتابة عند سمر هي المحرِّك الذي يدفع عربةَ سمر إلى الأمام، هي البئر التي تدلو منها عذبَ الكلام، هي النافذة التي تُبْصِرُ منها الحياةَ. الأمّ هي الجَمال الذي يلد الجَمال:
«سأموت جميلة مثل أمي- هذا ما أطمئن به نفسي حين ينتابني الرعب من ذكر الموت» (سمر الأشقر، مقال: حين نكبر).
الحنين الصارخ إلى الأمّ يفتح فمَ الرغبة عند سمر في السفر في الماضي الذي يزداد سطوة على حاضرها المُعَلَّق (قيد التجميد) والذوبان في رحلة سفر طويلة زفّها الأمس إلى مقبرة النسيان التي تَلْفظُ أجداثَها (جمع جَدَث) مع كل عملية تذكُّر لا تُبارِح ذهنَ الكاتبة لأيام زمان، ذلك النسيان الذي سبق أن قلتُ فيه:
«مَنْ قال إن النسيانَ يُرَوِّضُنا على لملمة حُرْقَتِنَا على عزيزٍ فقدناه وكنزٍ أضعناه؟!» (سعاد درير، مقال: دَفَنْتُها ودَفَنْتُ الكَنْزَ).
فماذا عن «شعر قصير: أحبكِ»؟!
لاحظوا أن الكاتبة سمر تكاد تقول المعنى نفسه على امتداد رقعة المنثور من كتاباتها. وما حضور الشاهد من نص الحوار إلا رصد لمساحة الحُبّ ومسافة التوق. ولا غرابة أن تكون كلتاهمها (المساحة والمسافة) تعريفا مُقْتَضَباً للأُمّ.
الاُمّ تُشَكِّلُ بالنسبة لسمر الأشقر مدرسةَ حُبٍّ وبطاقةَ هويةٍ وشهادةَ حياةٍ/ شهادة ميلاد تتجدد في كل وقت وحين..
الحياة الوردية رحلتْ عن سمر برحيل أُمِّها، أُمِّها التي تعادلُ «الحياةَ الثانيةَ». وفي المقابل، يترسخُ بقاءُ الحزن الجاثم:
«ليس ثمة شيء يقصي الحزن الموشوم على جدار القلب» (سمر الأشقر، مقال: أحزان مهرَّبة).
رحيل الأمّ في حالة سمر هو بمثابة صرخةِ ليلٍ موجِعةٍ تكفي لكسر مرايا الروح:
«حين تخرمش مخالب الحياة مرايا الروح يضطرب الجسد ويفقد تماسكه، يتعثر بظله ويسقط في حفرة اليأس حيث لا رغبات ولا عصا سحرية تعيد له ألقه وشغفه ولا تعاويذ تنقذه من الوحدة والخوف والعتمة» (سمر الأشقر، مقال: حين يشتد البياض).
رحيلُ الأُمّ هو بمثابة رحلةِ ألمٍ ضَيَّقَتْ حُظوظَ وحُدودَ الابتسامةِ في مُحَيَّا سمر:
«كل ما يرتبط بالسعادة لابد بالضرورة أن يأتي ممزوجا بالألم كعادة الحياة» (سمر الأشقر، مقال: ذاكرة خضراء).
رحيلُ الأُمِّ سَمِّهِ أنتَ رحلةً بَطَلَ معها سحرُ الألوان، فلما ماتتِ الأُمُّ مات معها قوسُ قزح ومات الفرح ومات المرح..
ما أوجعك يا قلب مَن يُعاقِر كأس الفقدان لأُمِّه أغلى حبيبة!
ما أوجع صهيلك يا حصان الشوق!
هكذا يحدثنا ذَوْقُ سمر في الكتابة عن لحنِ الحياة الميِّت وعن وريد عصفورِ الحُبِّ المذبوح.
ذَوْق أَخَّاذ لا يخطئه الإحساسُ بالتسامي في انتقاءات صاحبته سمر، ذوق لا غرابة أن تُقَدِّرَهُ أنتَ كُلَّ التقدير وتُعْجَب به كُلَّ الإعجاب من أول مبنى إلى آخر معنى.
أما عاينْتَ أنتَ نصوصَ العناوين التي تقدِّمُ نفسَها في صورةِ نصوصٍ موازيةٍ للنص الذي تهديه لك سمر، فتحفل أنتَ بضوئه وتحتفي ببريق مضامينه وموسيقى تجلياته الإبداعية المسافرة في الحُلم؟!
إليك بعض عناوين بابها في الصفحة الثقافية:
- «الحُبّ في ثلاجة».
- «أحزان مُهَرَّبَة».
- «حين يشتدُّ البياضُ».
- «لحن لا يملّه الرصيفُ».
- «كي أراكِ كُلّ مساء».
- «نهار يشبهني».
- «ليال لا تُنيرها الأقمار».
- «من يوقد الشمعَ».
- «صرخة الكتابة».
- «عن يد لم تعدْ تشعر بالدفء».
- «نافذة لم يُغْلِقْها النسيانُ».
- «ذاكرة خضراء».
- «أسئلة بين رصيفين».
- «آلام ملونة».
- «الفصول الأربعة».
- «وراء لا أعرف حدوده».
(...)
لا تقلْ إن العناوين قد صِيغَتْ كما اتفق، ولا تقلْ لي أيضا إن هذه العناوين لا تجتذبك اجتذابا، فها أنتَ ترى أنك لا تجدُ في حضرتها إلا أن تُسَلِّم نَفْسَك للنص ليَعْبرَك أو تعبرَه على مهل.
إذا كانت عتباتُ العناوين في نصوص سمر الأشقر بليغة بإيحاءاتها وانزياحاتها، فإن ذلك ما يَصدق على النص بالمثل تيمُّنا بالمثل اللبناني (أظنّ) الذي يقول: «المكتوب مبَيّن من عنوانو».
في نصوص سمر لك موعد مع الحنين الذي يتراءى لك في صورة ضفائر طويلة تحكي سيرة الذي كان، وهذا الذي كان ما أطوله من حيث تَرَسُّخ زمنه في حقيبة الذاكرة.
«أُمِّي/ بعدك/ تغير العالم/ وتقلّصتْ مساحاتُ الحب/ الذي منحتني إياه/ فـ (الحب من غير مقابل)/ بعدك أصبح مفقوداً./ يبدو أنني سأدفع عمري/ ثمنا للحب/ لمن لا يستحقونه/ كل شيء/ تغير/ حتى الهواء الذي أحبسه في رئتي/ صار ملوثا/ (..) أريد أن أنام لأنام/ لا لأذوب/ في حرارة الليل الممل،/ أريد أن أنام لأنام/ ليهدأ النمل المسافر في دمي/ لا أريد له أن يؤثث في جسدي المتعب/ مملكة جديدة للخراب/ كفاني تقلباً على المواجع والألم/كفى» (سمر الأشقر، ثلاثة نصوص).
هذه الذاكرةُ العصية عن المحو في قصيدةِ أُنُوثَةٍ حالمةٍ تُجَسِّدُها سمر الأشقر بقلمها المُمْطِر بوحا تختزن الكثيرَ والكثيرَ. تَصَوَّرْ معي كيف لِذاكرةٍ أن تحيا بكل هذا الزَّهْوِ الخلاَّق الذي يجترُّ التفاصيلَ دون أدنى تحسيسٍ لك بالْمَلَل أو النُّفور:
«منذ مدة طويلة لم أداعبْ وجهاً أو كفّاً أحبُّه وأشتاق إليه، ربما لهذا السبب فقدتْ يدي حرارتَها.. لم تعدْ تشتعل بالدفء، تذكرتُ وأنا أتأملها أبي وهو يطلب مني أن أَفْرك يديّ بقوة في البرد وحين لا أمتثل لكلامه يَضُمُّني ويفرك يديّ بيديه، كنت أتعجب كيف تشعُّ من يديه تلك الحرارة وذلك الدفء» (سمر الأشقر، مقال: عن يدٍ لم تعدْ تشعر بالدفء).
في حضرةِ نصوصِ سمر لا تفترُ رغبتُك في الإنصات والتأمُّل وقُبَالَتَك تتفجَّرُ عيونُ البوح الذي ينسابُ صادقا بريئا..
«كيف أمكن لذاكرتي محو كل صورك الجميلة عدا صورتك الأخيرة وأنتِ راقدة كتمثال شمع أبيض خالطته صفرة خفيفة» (سمر الأشقر، مقال: كي أراك كل مساء).
كيف لا ينساب البوح بريئا وهذا المخلوقُ الرقيق الذي يسمى المرأةَ يأبى أن يُفارِقَ حضنَ الطفولة الذي ترعرع فيه. لذلك تجدُ أنتَ المرأةَ في مقامِ البَوْحِ تَتَسَرْبَلُ ببراءتها التي تجعلُ منها طفلةً. وكذلك سمر تكتب لكَ عن أَدَقِّ تفاصيلها بقلبِ طفلةٍ (الصدق بيت القصيد)، طفلة تَوَّاقَة إلى سرد الحقائق والدقائق بأَشْهَى وأبهى ما في الرِّقَّة من رِقَّة:
«أحتاج إلى النوم يومين كاملين لأستعيد نشاطي، أترنح من التعب، أشعر بثقل في جفوني يمنعني من فتح عينيّ بصورة طبيعية، أفتقد نظرة الدهشة الطفولية التي تطل منهما» (سمر الأشقر، مقال: آلام تفاحة على الأرض).
إنه العالَم المثالي الحالِم الذي تنظر فيه سمر إلى الأشياء بعيني طفلةٍ، طفلة من حقها أن تَظَلَّ ملتصقةً بكونها البِلَّوْرِي الملائكي الشَّفَّاف.
لكن كيفَ ومع مَن؟!
ألا ترى أن هذا الكونَ البلوري الملائكي الشفافَ يحاولُ نمطُ الحياة المعاصرة (في ضوء الحروب النفسية والمادية وما جاورَها) أن يُجَرِّدَها منه؟!
يقول لي حدسي: هَيْهَات أن يُجَرِّدَها (النمط) منه (كونها البلوري).
لماذا؟ لأن ما يصدر عنكَ وما تعكسه أفعالُك (أقوالُك في مرحلة سابقة) هو مِرْآة لشخصيتك.
مِن ثَمَّة؟!
من ثمة فما أنا بصدد قراءته في شخصية سمر يُبَشِّرُ بخيرٍ ويَعِدُ بالكثير. انظُرْ إلى شريطِ براءتها (سمر) على امتداد ذَيْلِ حروفها تَجِدْ أنه دليل قاطع على أنها كائن لا يفارق عُنُقَ قارورةِ الطفولة، الطفولة التي لا تستسلم ولا تنحني لمكر ماكرٍ يحاول جاهدا طمس معالمها (الطفولة):
«كم من مرة احترقنا بصمتٍ غير عابئين بلحظة تحولّنا إلى رماد؟» (سمر الأشقر، مقال: أسئلة بين رصيفين).
كُنْ على يقين أن الطفولةَ كلما لازَمَتْ ظِلَّك يتبينُ لكَ (وللآخر) أنكَ تمضي على سَجِيَّتِكَ، ومن هنا تكون أنتَ عند حُسْنِ ظَنِّ وتوقعاتِ من يتوسمون فيك الخيرَ. وبالتالي تكون عطاءاتُك في مستوى ثقة من لم تخذلهم (في ذلك المستوى وأكثر)، هم الأَحَبّ إلى قلبك إحساسا وعينيك رؤيةً وشفتيك ذِكْراً:
«أُحِبُّكِ أُمِّي، ربما لم أقلْها من قبل بهذا الوضوح، لكنني منذ رحيلك أرددها دائما لعلك تسمعينها وتبتسمين لي من وراء الغيم». (سمر الأشقر، مقال: كي أراك كل مساء).
الطفولة عزيزي مفتاح لفتوحاتك الهادِرةِ شلالاتُها، وكلما تَعَلَّقْتَ بتلابيب طفولتك كُنْتَ الأكثر صدقا والأكثر إقناعا للآخرين بصدقك ونُبْلِك.
لستُ أدعوك هنا إلى أن تُصَدِّقَني، فالمقامُ لا مجال فيه للتكذيب، لكنْ صَدِّقْ إحساسَ سمر بما تكتبه لكَ قبل أن تُصَدِّقَ إحساسَك بكاتبتك سمر.
تَأَمَّلْ عزيزي لوحاتِ سمر المكتوبةَ، تجدْ أن الزمنَ يُطِلُّ بكل وطأته وثقله من شُرْفَة سمر:
«أتأمل زهرَ الليمون على الشجرة، الزهر الأبيض يذكرني بسيدة بيضاء رحلتْ، كل زاوية في البيت تحمل لمساتِها ورائحةَ عطرها. منذ رحيل أبي، لم يعد الجيران يشمون رائحة الخبز المحمص بالزيت والزعتر، أما أنا، فلم أعد أشم رائحة أبي. أشعر بالهاوية تتسع، قدمي تترنح، أتمسك بشال أمي، شال من غيم أبيض، ينجيني من الأذى. منذ ربيعين، كنت أشتري لأمي الزنابق البيضاء التي تحبها، كانت تبتسم وهي تضعها في المزهريات وتوزعها في حجرات البيت، لم أزل اشتري الزنابق البيضاء وأبتسم وأنا أوزعها في حجرات البيت، أشعر أن روحها قريبة مني وأنها تبتسم لي وهي تشم الزهر» (سمر الأشقر، مقال: الفصول الأربعة).
لكنها (الكاتبة) لا تَأْبَهُ به (الزمن) مهما آلمها وقيَّدَ أنفاسَها، فَبِها أو بدونها هو ماضٍ، وبه أو بدونه هي مُصِرَّة على إتمام رحلتها بين الحَرْفِ والخُطْوَةِ والإحساسِ:
«ربما أنا الآن أشفق على نفسي وأبحث عن سبب للكتابة لكِ وعنكِ، كي أتخفف من الإحساس بالفقد، ثمة أفكار كثيرة تتدافع في رأسي الآن، صور وذكريات، مواقف وحكايات لا أعرف لمن سواك سأحكيها.. ثمة صوت أحسه يسكنني، يرد لي حب الحياة ويقرأ فوق رأسي قرآن الفجر المشهود. هو صوتك يا أمي» (سمر الأشقر، مقال: وراء لا أعرف حدوده).
إنها ضفائرُ الحنينِ وعيونُ البَوْحِ في قصيدةِ أنوثةٍ طائيةٍ، كيف لا تكون قصيدةً طائيةً و«الطفولةُ» تعادل حَرْفَ الروي فيها.
ألا ترى معي أن سمر الأشقر تُمَجِّدُ الطفولةَ صِدْقَ إحساسٍ وبراءةَ مشاعر ومُهادَنَةَ قلبٍ، قلبٍ كبيرٍ سخاؤُه يتفجَّرُ كينبوعٍ يُطَيِّبُ الحَلْقَ (حَلْقَ العواطف) ولا يَنضبُ فيه معينُ صوتِ الحقّ؟!
«أمي قاربت أن تكمل عامها الثالث الآن، وأراها طفلةً تحبو في دهاليز الموت، تحبو وأنا أدعو لها بالرحمة وأوقد لها الشمعَ لتكمل طريقها إلى النور». (سمر الأشقر، مقال: من يوقد الشمع).
صَدِّقْ عزيزي أن الطفولةَ لا تخرج عن ذلك الحَرْف الشَّقِيّ الحَيِيّ البَهِيّ الأَبِيّ النَّدِيّ الذي يعزف على أوتار قلبِ كاتبتك سمر وبالمِثْل على أوتار قلبِكَ أنتَ الهائم في دنيا ما قالتْه (الكاتبة) وما لم تقلْه هي (ما بين السطور).
عانِقْ حَرْفَها بلهفةِ اُمٍّ حريصةٍ بقلبها وعينيها على الغوص والإبحار في الذَّاتِ تَرَ ما يأسِرُ ويسحرُ من بديع التجليات.
ما أحلى حرفكِ الباذخ الفتَّان يا سمر! (وَدِدْتُ لو أَطَلْتُ سفري فيه وأنا من مُعْجَبيه لو لم تمنعْني حرارة التهاب اللوزتين صراحةً التي أفسدتْ حساباتي).
تحية وردية عَبِقَة بالتقدير والاعتزاز للإنسانة الفنانة بأناملها، سمر الأشقر الإنسانة التي دلَّني عليها حرفُها.
لِسَمَر: دُمْتِ شمساً تُداعِبُ خُدودَ مَلَكاتنا الفكرية بِبَديعِ إشراقاتِك.. كُل أربعاء وحَرْفك أَرْوَع.
ولكَ عزيزي القارئ: كُلّ قراءة وأنتَ «سُلْطان مملكتِها» (على رأي زميلي الأستاذ محمد الربيع النَّيِّر الاطلاع والمبدِع عند قراءته في مُنْجَزات مَن يرابط معه في محراب الحَرْف).

* لستُ من متابِعي الإنتاجات التركية، فهوسي بالسينما الهندية لا حد له، ولذلك لا يترك لي غالبا هذا الهوسُ مجالا للانفتاح على إبداعات سينمائية أخرى. لكني بالصدفة عثرتُ على شريط «ما تبقى لي منك» حين سجلتُ في محرك البحث على اليوتوب قبل أسبوع عنوانَ «فيلم هندي رومانسي حزين 2016». لم أندمْ مطلقا على مشاهدة هذا الفيلم التركي الذي وجدْتُه يليق بذوقي حدّ أني صَدَّقْتُه، وما أحوجنا إلى أن نُصَدِّقَ ما (ومَنْ) حولنا.
بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
03/09/2016
2303