في منظومة من الخطابات والتصريحات ذكّر بوتين بأمراض السلوكيات الغربية، أو المفاهيم التي فُرضت على البشرية من خلالها، وخاصة مشروع إسقاط الأُسرة الفطرية، والحالة الجنونية المثلية في تحويل الذات الإنسانية إلى جندر مادي، تسوّقه الرأسمالية المتوحشة، صور تنميط خارج العلم والتاريخ، وضد الكتلة الصلبة للعلم التجريبي والمعرفي، فضلاً عن ميراث البشرية الأخلاقي، ووراثتها للميلاد الأول للوجود الإنساني من ذكر وأنثى.

وهي مشاريع ضغط شرس تُروّج من قبل الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وغيرهما، ومواجهتهم مسار صحيح ومستحق يواجه لرفض هذا التعسف الغربي، وقهر الأمم الأخرى بمفاهيم الحداثة المادية المتوحشة ضد فطرة الإنسان، ولا ضير ولا خلل من التعاضد مع الروس أو المجر فضلاً عن شركاء الجنوب في آسيا وأفريقيا، في الدفاع عن قيم ومنظومة الأسرة أمام الاستبداد الكولونيالي الجديد، بغض النظر عن دوافع موسكو وقيصرها الجديد.

لكن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، ونفوذ روسيا في المؤسسة الأممية، كعضو في مجلس الأمن قائم منذ مآلات الحرب العالمية الثانية، وعلاقات الإرث السوفياتي مع عالم الشرق كانت واسعة في جغرافيتها، ومتداخلة فكرياً، لكن لم يكن هذا التداخل يقوم على احترام مختلف للروس لرسالة المسلمين، ولا كيانهم.

نعم قد ذكّر بوتين أيضاً بمهزلة فتح باب الحرية للإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيما يشتد غضب الغرب حينما تمس مقدساته الحداثية، كالمثلية، أو الموقف من الأعمال الإرهابية التي شنها النازيون المسيحيون ضد اليهود المدنيين.

وهذا ملحظ صحيح من الجيد جداً التذكير به، لكنه لم يمنع مطلقاً من حروب الروس على المسلمين، في حرب الإبادة في الشيشان وفي أفغانستان، وفي سوريا مؤخراً، كما أن هذه الدعاية السياسية منحصرة في هذا الموسم ولم تكن تَحضر بفعالية كبيرة، ولا مشهودة يتبناها الروس لصالح المسلمين، ولقد تداخلت عمليات الحرب قديماً وكان من ضحاياه شعوب آسيا الوسطى، ومنها حروب الإبادة والتهجير التي قاومها المسلمون القوقاز، وخاصة حركة الإمام شامل الداغستاني.

إن ما يطرحه بوتين اليوم متعلق بصورة كبيرة ومركزية، بتراجعه العسكري في أوكرانيا، وقبل ذلك في التحرك العاجل لمنافسة الغرب في نفوذهم، وتجيير موقف الدول والمجتمعات للتضامن معه بعد غزوه لأوكرانيا، وتفاجئه من مصيدة الغرب المعقدة، والمحكمة ضده، ثم استعادة أوكرانيا لمساحة مهمة من مناطق الحرب، أمام تكتل جثث المجندين الروس، في ظل صيحات القلق وأخبار الهروب من روسيا، التي وثقت عبر السوشال ميديا.

ونحن هنا لا نعطي الغرب أي مساحة حق أدبي ولا سياسي، في تجييره الصراع مع روسيا، واستقطاب العالم الإسلامي لذلك، ولا يخدعنا مشاهد أئمة الدين في ثكنات الجيش الأوكراني، ولا الروسي فضلاً عن مهازل قادروف وبقية عملاء المنظومة الروسية، وقد أبصرنا توافق الناتو مع موسكو في دعم تصفية الثورة السورية، ذلك الدعم الذي غُطي ببحر من الدماء والضحايا، ثم ختم باتفاق سياسي إقليمي رعته موسكو مع طهران وأنقرة، يضمن سحق الثورة والتخلص من اللاجئين.

فحاضر العالم الإسلامي يعيش حالة استقطاب منافق، تخذله فيه الحكومات الرسمية، ولذلك فإن مساحة الحذر ثم العبور الدقيق، من هذا المنعطف هو الذي يحتاجه المسلمون اليوم، فانتصار الروس وحلفهم الصيني الهندي والطائفي الإيراني، لا يُقدم صورة إنقاذ لقضايا المسلمين، وهو يُهددهم أيضاً بتحول هذا التحالف إلى حروب تصفية متوحشة ضد مناطق المسلمين.

وعليه فإن دعوى أن هزيمة الغرب مقابل صعود هذا التحالف، يعني استقرارا وطمأنينة لحاضر العالم المسلم، هو أكذوبة خطرة فروح الإبادة والرفض للمسلمين واستقلالهم، لا تقل عن سوء الغرب، بل قد تكون أسوأ منه.

في المقابل فإن ربط عجلة مستقبل المسلمين، بالتفوق الغربي، وتمكين مركزيته الكولونيالية الشرسة هو خطر كبير أيضاً، له تأثيره السياسي والأخلاقي والاجتماعي، فالمبادئ الأصلية هنا هي المنهج الذي نتمسك به على الأقل فكرياً، دون أن نمنع أي دولة أو شعب تحت مظالم الغرب، أو الروس، من الإفادة من حسابات الصراع لأجل قضاياهم، فهو عبور سياسي حذر، لا يجوز أن يتحول إلى ولاء لهذا القطب أو ذاك.

ومن المؤسف والمخزي، أن إمكانية صناعة لوبي غير منحاز لدولنا المسلمة الكثيرة والمهمة، من حيث التجمع البشري العالمي، تدافع عن قيمها وحقوقها هو مساحة متاحة، حين تتشكل سوف يسعى لها كلا القطبين، لكسب مواقف سياسية من هذا الشرق الضخم والمؤثر، تعبر بها الأسرة الفطرية إلى الإنقاذ، لكن الدواء في حكام المسلمين ومشاريعهم الذاتية لبقائهم لا لبقاء أمتهم.