+ A
A -

فُوجِئْتُ عندما قَبَّلَني محمد قُبْلَةً صادقةً وديعةً! لم أَتَعَوَّدْ على قُبُلاتٍ كهذه في بداية الموسم. لكنه سرعان ما توَّجَ القُبلَةَ الخاطفةَ الحَيِيَّةَ بقوله: «عيد مبارَك سعيد أستاذة». غَمَرَتْني عبارتُه بسعادة لا تُوصَف، وشكرتُه ملء ابتسامتي المعتادة التي لا أَسْتَكْثِرُها على أمثاله في موقف كهذا. أُحِبُّهُم، أُحِبُّهم حُبّاً خُرَافياً، أرى الرسالةَ التي كَلَّفْتُ بها نفسي أكبر وأشرف وأطهر وأرقى من كل ما قد تَتَصَوَّرُه. ومن هذا المنطلق أرى أن رَجُلَ التعليمِ (رجلاً كان أم امرأة) لا يَقِلُّ خُطورةً عن القاضي، فكلاهما في يَدِه أن يَقْطَعَ رَأْسَ بَرِيءٍ (يقتلَه) أو يَدُلَّهُ على بَرِّ الأمان (يُحْييه).
لا أريدُ مناقشةَ قناعاتي واختياراتي مع من تَجَرَّأَ وفتحَ سيرةَ الموضوع الذي لا أُرَحِّبُ بالتدخل فيه، لكني بعد أن راهنْتُ على حصان خاسِر (التدريس في الجامعة الذي يَلِيقُ بكفاءتي التي يَشْهَدُ لي بها أساتذة جامعيون ومُؤَهِّلاتي التي يَفْتَقِدُها عدد ممن يشغلون المنصبَ) حمدتُ اللهَ لأنه (الحصان) خَسرَ لحاجة في نفس مَن لم يَعُدْ يَهمُّني أَمْرُهم، ووجدْتُ في اللاانتماء حريتي وضالَّتي التي سلَّمَتْنِي مفتاحَ الحَظّ كما أراه بعينيّ.
صحيح أن العملَ في قطاع التعليم الخاص يحتاج إلى أعصاب من حديد وقوة تَحَمُّل، ولا يدرُّ عليَّ عائداً مادياً يُذْكَرُ، لكنني أجدُ فيه حلاوةً، وأتلذَّذُ بتعذيب نفسي على بذل مجهود أكبر من المطلوب، أَوَّلاً لأنني أُحِبُّهم (تلاميذي) وأَرَاني مسؤولةً عن تحفيزهم بِكُلّ الطرق من رفعِ معنوياتٍ وثناءٍ وهدايا، وثانياً لأنني سأُحاسَبُ عليهم بين يَدَيْ مولايَ كما كُنْتُ سَأُحَاسَبُ على أبنائي الذين لم أَلِدْهُم.
صحيح أن الحصةَ الواحدة معهم لا تتجاوزُ ظرفَ ساعةِ زمنٍ كُلَّ مرةٍ على حسب ما تقتضيه مادة اللغة العربية في التعليم الثانوي الإعدادي، لكنني أَجْعلُ منها وقتاً حُلواً أُدَرِّبُهم فيه على اكتشافِ طُرُقِ العمل غير الروتينية، ولا أَجْعَلُهُم يَنْفرونَ من الحصة، لأني أُدْمِجُهم في بناء الدرس، أُعَلِّمُهم مهارةَ المناقشة والتحليل، وأُدَرِّبُهم على «كَيْفَ تَصِلُ إلى النجاح وكَيْفَ تكون في المقدمة» دون أن أَكُفَّ عن تذكيرهم بأن النجاحَ سهل وممكن، لكن الصعبَ هو أن تُحَافِظَ على مكانتك في القِمَّةِ بعد بُلوغِها.
أقول لهم دائماً: انتبهوا إلى كل ما يَصْدرُ عنكم من أقوال وأفعال، فهي مرآة لشخصيتكم، هل تَرْضون لأنفسكم بأن تَسْقُطُوا في مواقف سخيفة تَجْعلُ الآخرَ يُسْقِطُك في عينيه ويُعيدُ النظرَ في تقييمك بشكل سلبي؟! فيفهمون رسالتي على الفور ويعدِّلون وضعياتهم. في كل مرة أدعوهم إلى الحرص على أن يُجِيدُوا ما يقومون به. أُذَكِّرُهم باستمرار بالفيلسوف الذي رآه الناس يَكنسُ الشارعَ، فاستغرَبوا، لكنه ابتسمَ برضى قائلاً: «إذا كان هذا العملُ لا يُشَرِّفُني فأنا أُشَرِّفُه»، فيستخْلِصون العِبْرةَ.
«نِعْمَة» تُبْهِرُني، تبهرني في كل مرة على امتداد سنة، أراها تَلْتَقِطُ النصيحةَ والفكرةَ بذكاء لا نظير له، ومن ثمة تستفيد في التطبيق وتُجِيدُ الاستثمارَ. صادَفْتُ والدَتَها مَرة في مدخل مجموعة المدارس، ولم أنتبهْ إليها لولا أن مسؤولاً إدارياً دَلَّها عَلَيَّ، صراحةً لا أُحِبُّ أن أَجْتَمِعَ بأولياء الأمور. العلاقةُ الوحيدة القائمة توجَدُ بيني وبين تلاميذي في مِساحة مُغلَقةٍ، أُحَدِّدُ أهدافي، من ثمَّ نَعْمَلُ في فريقٍ واحد على مَدار الساعة. تُنَوِّهُ مسؤولة إدارية بطريقتي في العمل، وفي كل مَرة تقول لي: «جميل جداً أني أراهم ُيِحبُّونَكِ ويحترمونك، يحترمونك تقديراً واعتزازاً وليس خوفاً منك». لكن لديَّ امتيازات أخرى، فأنا من بيتي إلى قاعات التدريس، ومن قاعات التدريس إلى بيتي، طَلَبْتُ أَلاَّ أُشارِكَ في حفلاتٍ ولا زياراتٍ ولا خَرْجَاتٍ، واحترمَتِ الإدارةُ رغبتي. أعود إلى والدة نعمة، فخلال لقائها بي وجدْتُها مُلِحَّةً في أن أَنْتَبِهَ إلى نعمة التي لم تُنْجِبْ غيرها، فبمجرد أن ذَكَرَت اسمَ ابنتها، قلتُ لها: ما شاء الله، لَمْ أَرَ أَنْجَب وأَجْمل وأحسن سلوكاً وأخلاقاً وأَثْمَن في عينيَّ من نعمة، اطْمَئِنِّي، فَلَوْ كُنْتُ أَنْجَبْتُ ابنةً ما تمنَّيْتُ أن تكون أفضل من نعمة على جميع الأصعدة.
دَرَّبْتُهُمْ على إلقاء عروض. وَزَّعْتُ عليهم أوراقاً بيضاء، واحتفظْتُ بواحدةٍ لي، نَبَّهْتُم إلى ثَنْيِها وطَيِّها على طريقتي، وَجَّهْتُهم إلى الحَيِّز الذي يُسَجِّلُون فيه أسماءَهم باختصار وبِخَطٍّ عريض ونوعيةَ المستوى الذي يُمَثِّلونه، ثم الطريقة التي تَتَمَوْضَعُ بها البطاقةُ على المكتب، ثم الأوراق الْمُلَوَّنَة الصغيرة التي يُسَجِّلون فيها رؤوسَ الأقلام عند ارتجالهم للتفاصيل والمضامين، أُعْجِبُوا بالْمُقْتَرَح، فوجدْتُهم يتسابقون على تسجيل أسمائهم لتقديم عروض عُمْرُها عَشْر دقائق، أُرَبِّيهِمْ على المنافَسة الشريفة. أَدْهَشَتْنِي نعمة في آخر السنة عندما أَلْقَتْ عَرْضَها بشكلٍ مُذْهِل مع احترامها لشروط التنقل في القاعة وحُسْن استفادتها من السبورة. بَارَكَ اللهُ فيهم وحَفِظَهُمْ، ويَكْفِيني فَخْراً أن يَذْكُرُوني بِخَيْرٍ وحُبٍّ بعد أن تَتَفَرَّقَ بنا السُّبُلُ. ما أَرْوَع أن تُحِبَّ وتُحَبَّ.
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
08/09/2016
2627