+ A
A -

كاتبة مغربية
الرسالةُ تُعادِلُ وردةً تمدها بحنان لِمَنْ تُحِبُّ، فكلما تَضَوَّعَ أريجُ وردتك سَكَنْتَه أنتَ وسكنَك هو.. وعند بابكما خَيَّمَ الشوقُ، وبالمثل خَيَّمَ الشوكُ: شوكُ النوى، شوك الإكراه، شوكُ القَدَر وقِسْ على ذلك..
مَن منا (عن الإناث أتحدث) لم تَسْعَدْ بِـ (أو تُصْدَمْ في) رسالة ورقية زُفَّتْ إليها على جناح الشوق، زُفَّتْ إليها بكل الحُبّ (الحقيقي أو الْمُزَيَّف)، تتقدَّمُها وردةٌ تعبق بعطرها الخُرافي، أو تتأبَّطُها ربطةُ عنُقِ قارورةِ عطرٍ أنيقةٍ فاخرةٍ، ولسانُ حالِ الرسالةِ: «افتحوا البابَ.. افتحوا الباب يا أحباب! عصفورُ الحُبّ يُحيّي ويُقَبِّلُ الأيادي والأقدامَ والأعتاب»..
كاتبُنا اللَّبِقُ العارِفُ بكل جميل وكنزٍ دفينٍ سمير البرغوثي سبق أن استهل الحديث في الموضوع بمدخلٍ أطربني بقدر ما أغراني جمالُه «المدخَل» بالخوض فيه، لذلك تركْتُ عربةَ الخجل ورائي ولملمتُ شجاعتي لأواجه السيد سمير بطلب أن يسمحَ لي بمواصلة الكتابة في ما سبق أن بدأه ولم يُنْهِه.
إليه: «طرقْتُ بابَكَ.. وأنا والقلب في خصام.. بيني وبين كأسك حِجابٌ هَوَى، وهوًى لا يُبارِكُه الهوى، أَمَا وإنِّي قد تبرَّأتُ مني ها تصدُّ دوني الأبواب؟! حتى متى يَحفرُ الحبرُ عيناً تحت جدار النوى ومازال ثغرُ الشمس يترفق بَاسِماً بعصافير المساء الباحثة في رُمَّانَةِ القلبِ عن الحَبِّ والحُبّ؟! مِن شُرْفَةِ بيتِ الحياةِ أناجي نجمةً وحيدةً لم تَتَخَلَّفْ عن موعدي تحت زَخَّاتِ الحنين.. أَيَا مَنْ سَأَلْقاهُ أَمَا آنَ أن تَفْتَحَ لي؟!.. إليكَ رسائلي فَدُلَّني عليك..» (سعاد درير، «بين يديك»).
وبعد،
فَعَلَها سمير!
عفواً، زميلنا سمير البرغوثي، فَعَلَها، وخَبَّأَ قارورةَ عُمْرٍ، بل أعمارٍ، في بيته في عمان، ولم يشأ أن يفتحها إلا في أيامنا هذه، لينكشف المستورُ، وتتسلل إلى أنوفنا رائحةُ العشقِ الزكية، وإذا بها كنسيمٍ حالِمٍ في ليلة ربيعٍ تنبعثُ رائحةُ العشق من حقيبة سمير البرغوثي:
فتحْتُ حقيبة قديمة ملقاة فوق خزانة غرفة نومي في عمان لأجدَ مجموعة كبيرة من الرسائل بيني وبين زملاء صحفيين وصحفيات وأدباء وأديبات وشعراء وشاعرات، تصلح لأن تكون كتاباً في أدب الرسائل، ووجدتُ رسائل متبادلة بين الشاعرين الفلسطينيين الكبيرين المرحومين محمود درويش وسميح القاسم وأخرى بين غسان كنفاني وغادة السمان وهذه الأخيرة وجدت ناشراً يبحث عن مادة مقروءة وباتت حديث الناس» (سمير البرغوثي، مقال: أدب الرسائل في ذمة التكنولوجيا).
من كان يصدق أن قارورة عُمْرٍ، بل أعمار، بحجمِ حقيبةٍ نَبَذَتْها الأيامُ، حقيبةٍ منفيةٍ في سطح خزانةٍ يمكن أن تحجبَ عنا ضوءَ شمسِ العشق، العشق «على أصوله» وفي عز أوانه؟!
«الرسائل لا تجد رواجاً كما رسائل الحُبّ بين ابن زيدون والولادة بنت المستكفي التي قدمت للأدب العربي روائع من روائع الحُبّ العذري والشوق المتأجج وبين غسان كنفاني وبنت السمان لما فيها من شوق ووجد ومعانٍ كبيرة أن يعشق أديب متزوج وله ولدان زميلتَه الأديبة ومن أجلها وبها كتب قصة حياته الجديدة ومع روعة الرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم إلا أنها لم تجد ذاك الجذب الذي وجدته رسائل الغرام بين العشاق» (سمير البرغوثي).
من كان يصدق أن غرفة سمير في عمان كانت تختال فيها حقيبتُه كطاووس مُقَيَّد (كاد بفقد ريشَه بالنظر إلى قِدَم الحقيبة) منتشيةً بعطرها الفوَّاح، عطر العشق الذي ضَلَلْنَا الطريقَ إليه أو ضلَّ هو طريقَه إلينا؟!
أوليس لذلك ما عادت رسائل اليوم تُجْدِي نفعا في سياق العشق/ سباق العشق؟!
أوليس لذلك هَجَرَنَا (نحن) العشقُ، العشقُ الذي لم تَبْقَ منه سوى عباءته مُعَلَّقَةً على سدرة أشواك بلا ثمار طيبة، سدرة عواطفنا الباردة المربوطة في قفلٍ بإحكامٍ كما يُرْبَطُ سِحْرٌ مدفونٌ (والعُهْدَة على ما يَكتُبُ شيوخُ الرقية الشرعية في المواقع الإلكترونية وما يشرحونه بالتفصيل في مكاتبهم الْمُكَيَّفَة الزاهية على القنوات الفضائية)؟!
في زمننا البائس كل شيء مُزَوَّر ومنسوخ وممسوخ، حتى الحُبّ، الحُبّ الصيني نِسبةً إلى زَيْفِه (تَابِعْ قصةً طريفةً في آخر المقال)..
البرَكَةَ!
البَرَكَةُ رحلتْ مع رحيل أيام زمان، أيام الحُبّ العفيف والغزل العُذْري، أيام عباس بن الأحنف وحبيبته فَوْز، أيام قيس بن الملوح وحبيبته ليلى العامرية، أيام جميل بثينة، أيام كثير عزة، واللائحة طويلة لأسماء عُشَّاق ارتبطتْ بأسماء من سَحَبَهم الغرامُ إلى خيماتهن..
عِشْق له طعم ولون وبصمة بَصمَ عُشَّاقا غَيَّبَهم الموتُ، لكن سِيَرَهم مازالت حيّةً حاضرةً تتخذ لهم مكانا بيننا نحن الذين لم نُجَرِّبْ أن نقطفَ ثمارَ الحُبّ من شجرتهم..
لذلك خَذَلَنا تُفَّاحُ الحُبّ..
تُفَّاحُهم طَيِّب ما أحلاه!
وتفاحُنا «عليه اللعنة» يستنزف جيوبَنا (وربما قلوبَنا)، نُعْجَبُ به ولا نَستطعمه، تماما هو مثل نبات الدفلى OLEANDER.
إنه الحُبُّ يا سادة. والحُبُّ عبادة..
الحُبُّ وما أدراك..
الحُبُّ الذي عندما تشتعلُ نيرانُه فإنها تُتْلِفُ حَصادَ القلب من حِكمةٍ ومنطق، ويغدو الجسدُ ذبالةً حارقة تأكل الأخضر واليابس.
هذا الحُبُّ تمدد بما فيه الكفاية على صفحات الورق المطوية بين أظرفة الرسائل مُقْسِما أن يُحرقَ قلوبَ العُشاق واحداً واحداً، فإذا بالآهات قرابين، وإذا بالعُشَّاق مساجين، مساجين حروفِهم الضائعة في قلبِ محفظةِ ملاكِ الرحمةِ الذي يُسَمَّى ساعي البريد.
ساعي البريد المسكين الذي تصبَّبَ أهلُ العشق له شكراً يُؤَدي دورَ حمامةِ سلامٍ، أو عمودَ الكهرباء الذي يحرص على الربط بين أسلاك القلب ليُزَوِّدَه بكهرباء الحُبّ، كهرباء الحُبّ التي إما أنها تضيء لك مصباحاً في غرفة ذاتك، وإما أنها تصعقك إذا اختلَّت الموازين.
فإلى أدب الرسائل تقودنا الرحلةُ في هذه الورقة الثقافية.
لكن مهلاً، أدب الرسائل! عن أي شيء نتحدث؟!
لا أريد أن أفسد على الكريم سمير البرغوثي متعةَ الموضوع الشيق الذي فتح لنا بابَ الدخول إليه، لكن صَدِّقُوا أنها اللهفة على مد الجسور إلى العالم الفريد الذي يسمى أدب الرسائل..
كاتبُنا اللَّبِقُ العارِفُ بكل جميل وكنزٍ دفينٍ سمير البرغوثي سبق أن استهل الحديث في الموضوع بمدخلٍ أطربني بقدر ما أغراني جمالُه (المدخَل) بالخوض فيه، لذلك تركْتُ عربةَ الخجل ورائي ولملمتُ شجاعتي لأواجه السيد سمير بطلب أن يسمحَ لي بمواصلة الكتابة في ما سبق أن بدأه ولم يُنْهِه.
ولا أحدثكم عن سخاء الرجل (سمير)، فقد تجاوب مع اقتراحي ثقةً في قلمي، وقالَ: «هو لكِ»، هكذا يفعلُ الكبارُ قلباً وقلماً وذَوْقاً وأخلاقاً..
يتبع السبت المقبل
بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
10/09/2016
1758