روى أبو الحسن الأندلسي في كتابه الرائع «تاريخ قضاة الأندلس» أن روح بن حاتم الذي ولي إفريقيا لبني العباس لخمسة من الخلفاء هم: السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد قد أرسل إلى الفقيه ابن فروخ ليوليه القضاء، فامتنع عن ذلك، فهو على فقهه كان يخاف على دينه من المناصب، ومن أن يخطئ في القضاء!
فأمر روح بن حاتم به أن يربط، ويصعد به إلى سقف الجامع، وقال له: تقبل القضاء؟
فقال: لا!
فأخذ ليرمى من أعلى، فلما أحس الجد من الوالي، قال له: قبلت!
فجلس في المسجد ليقضي، ومعه حرس، فجاءه خصمان، فنظر إليهما وبكى طويلا، ثم رفع رأسه وقال لهما: سألتكما بالله أن تعفياني من النظر في أمركما، ولا تفسدا علي ديني..
فأشفقا عليه، وقاما من بين يديه!
فأعلم الحرس الوالي بذلك، فأحضره وقال له: فبمن تشير علينا للقضاء؟
فقال له: بعبد الله بن غانم، فإنه شاب مغرم بأمر القضاء، متبحر فيه.
فقال له الوالي: بشرط أن يستشيرك بما أشكل عليه.
فقبل ابن فروخ ذلك على مضض.
وكان عبد الله بن غانم يستشيره كثيرا، فقال له ابن فروخ: يا ابن أخي إني لم أقبل القضاء أميرا، أفأقبله وزيرا؟
وخرج إلى مصر هاربا من ذلك كله، ومات هناك رحمه الله!
شيء لم تقبل أن تكون فيه رأسا فلا ترض بعد ذلك أن تكون به ذيلا!
هذا إذا ما تعلق الأمر بالدنيا، أما إذا تعلق بالآخرة، فليس للحق آخر، وأن يكون المرء ذيلا في الحق أفضل من أن يكون رأسا في الباطل، ثم إنه من منن الله على المرء أن يدله على الحق، لا والناس مقبلة عليه وإنما وهي خارجة منه، فأولئك محصوا وما ثبتوا، وهو جيء به ليخلف الذين تولوا!
وبالعودة إلى القصة، فإن الورع فيها رهيب! والسياسة فيها أرهب!
فإن كان يحسب لابن فروخ الفقيه ورعه، وتمنعه عن القضاء خشية أن يقع في ظلم أحد. فكذلك يحسب للوالي محاولته حمل ابن فروخ على القضاء بالقوة والإكراه، فبحث الولاة عن المساعدين والوزراء الأكفاء من فطنتهم، وورع ابن فروخ لنفسه أما فقهه وعلمه فللناس.
والشيء بالشيء يذكر، كما أن السعي لتولية الصالحين المناصب العامة هو عبادة، فإن منع الظالمين من هذه المناصب أعظم أجرا لأنه من إماطة الأذى عن الناس!