هل لوحة أم الحنايا التي جسدتها رائعة الموسيقار القطري الراحل عبدالعزيز ناصر رحمه الله هي قطعة فلكلور موسيقية فقط؟
أم أنها نحتٌ موسيقي تضمن قصيدة تراثية، تعكس تاريخ إنسان الخليج العربي، هذا الإنسان الذي توطّنت حضارته في هذه الجغرافيا، وكانت لوحة الغوص والبحث عن مصدر الرزق هي صورته الأخيرة قبل انفجار النفط، النفط الذي أغنى وغيّر بعض الأحوال وحسَّنها، ولكنه ليس بالضرورة حمل هذا الإنسان إلى رحلة المنافسة الإنسانية، في صراع أو حوار الحضارات، الذي امتلأت بضجيجه الأرض بعد الحرب العالمية الثانية.
وأياً كانت تجارب النجاح أو رحلات الفشل في صناعة أرضية إنسان الخليج العربي، وتقدمه الفكري والأخلاقي، فهنا هذا التاريخ جزءٌ من الوجدان وقيمة من المكان، لا يجوز أن يعفو عليها الزمن، لا أقول ذلك لتثبيت أم الحنايا وغيرها كمادة فلكلور فقط، ولكن لكونها مقدمة أو إطارا نعيد فيه التذكير بأن إنسان الخليج العربي، هو امتداد لحضارة راسخة، لها رابط بتاريخ الحضارات القديمة.
وهي اليوم وبالأمس والغد، تعتز بأن الخليج العربي، حيث إنه الساحل الشرقي للجزيرة العربية، مهد الإسلام ورسالة التحرير الكبرى للذات البشرية، كان أحد موانئ البلاغ والدفاع عن تلك الرسالة، التي غيّرت العرب وأمم البلاغ لما هو أفضل في حياتهم وتاريخهم.
وهنا ينبغي أن نفهم الصمود الإنساني، الذي تعتني به أمم الأرض، وأن كوننا جزءًا لا يتجزأ من الأمة العربية، يؤكد علينا التذكير بالتراث وصمود الذات الإنسانية لأهل الخليج العربي، فمن يستمع النحيب الضمني في:
أمّ الحنايا يدّفوها على السيف / كلها صبيان تجرّ المياديـف
يا رايحين الغوص باسير وياكم / لي جرّوا الميداف با آجر وياكم
لاقعد على (الفنّة) وأسمع حكاياكم / يا نواخذاهم لا تسلّط عليهم
ترى البحر بارد غَصْب عليهم / ترى حبال الغوص قطع أياديهم
فهنا قلق وألم الزوجة والأم والأخت والبنت، هنا ذاكرة المرأة الحديدية التي تحملت العذابات لتصلب عود منزلنا العتيق، والمغامر الغيص أو السيب (الغيص هو الغواص الذي يتلقط اللؤلؤ ثم يجذب الحبل الذي يكون في قبضة زميله- السيب- فيسحب الحبل بقوة لتداركه قبل انقطاع نفسه) هذه الثنائية التي تكافح لأجل رزقها، هي الركن الأول من ثلاثية أهل الخليج.
أما الركن الثاني فهو البدوي الذي ينقل الناس وبضائعهم بناقته، ويشاركهم في التكامل الاقتصادي والاجتماعي والدفاعي، في حين الثالث هو الفلاح الذي يُثمر الزرع والنخل في أرضه، والذي أشار لها النبي صلى الله عليه وسلم في طبيعة المهجر، الذي يحمل إرث النبوة، فكان هذا الساحل شبيهاً بأهل المدينة المنورة، وله طبيعة أخرى لاختلاف جغرافيته.
إن المقطوعة هنا تذكّر بهذا المزيج وبمفهوم المصابرة وآلامها، وهي تتجاوز لوحة هذا المركب أو ذاك، لتكرس قصة الرحمة التي فُقدت من نُواخذ ووجدت لدى نواخذ آخرين، وأن تاريخنا الاجتماعي يحتاج إلى مصارحة، كما يحتاج إلى استيعاب قيمه وتأكيد صفاته النبيلة، ونقد كل سلبيات طغت في ذلك الزمن، أو تطورت في زمننا اليوم وخاصة في التفريق العنصري بين الناس، كبيئات أو أصول أو غير ذلك.
إن السائح القادم لكأس العالم يهمه أن يفهم أي فارق تملكه هذه الأرض، وهل هذا الفارق هو لوحة تراث عابرة، أم قصة حياة وفلسفة وجود على هذا الساحل، وحيث إن أهلنا في قطر، قد أعلنوا أن الفعالية الكبرى الأضخم لكرة القدم، في كأس العالم 2022، باسم كل العرب فهنا لا بد من التذكير بخليج العرب، ورحلة مجتمعه.
في أميركا الشمالية وفي أوروبا لا تُترك زاوية حجر، ولا بقعة لها سمة تاريخية، إلا ويوضع لها نطاق توضيحي كما هو أيضا في تركيا، حيث تلاحظ الحفاظ على الإرث العثماني، ومعالم وشخصيات الدولة التركية القومية الحديثة، التي جاءت في أنقاض العثمانيين، وهذا أيضا ما تسعى عبره الدول الآسيوية وغيرها، لربط المعالم بالتاريخ الاجتماعي والثقافي.
ولذلك فإن هناك فرصة لتحويل مقطوعة عبدالعزيز ناصر، إلى سيمفونية عزف خاص في ليالي كأس العالم، يُدمج معها فنُ تشكيلي وتعريف ثقافي يتخلل لوحاتها، لا أشك لحظة بأنها ستحقق استقطاب لجمهور كأس العالم، كما أن قدرة الشباب في قطر موثوقة بقوة بأن تصيغ برنامج تلك الأمسية الجميلة، التي تُعرّف أيضاً، بمسيرة الفنان القطري العروبي المبدع ابن الخليج عبد العزيز ناصر.
مهنا الحبيل
باحث عربي مستقل
رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية