+ A
A -
ذاك القبرُ المظلِم الذي تنطفئ فيه يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة، دقيقة بعد دقيقة، لحظة بعد لحظة، ذاك القبر المظلِم الذي تُدْفَنُ فيه أنتَ، ويتجدَّدُ فيه دفنك على مدار الوقت، ذلك القبر المظلم أنتَ منه وهو منك، يتجدد دفنك فيه كأنك طائر العنقاء بأكثر من روح، وكلما تُدْفَنُ الروحُ يستيقظ تؤأمُ الروح، لتتجدَّد مراسيم الدفن وأنتَ قابع في مكانك أنتَ، جاثم الأنفاس أنتَ، كأن عليك لعنةً نَزَلَتْ، لعنة تُسَمَّى الاختيار الْمُرّ وما اخْتَرْتَ أنتَ شيئا.
الاختيار الْمُرّ هذا اختارهُ لك قَدَرُك الذي يتبرَّأُ منك، قدَرُك الذي يلعنُك ما تَجَدَّدَ دفنُك أنتَ، والدموع مراسيل تُحَدِّثُ مولاكَ بِما أشقاكَ، الدموع تَيْنَعُ ورودُها على حدائق وجنتيك اللتين بينهما ينتصبُ قبرُك كما تنتصبُ صورةُ حفَّارِك، صورة حَفَّارِك الذي يُجَدِّدُ دفنَك أنتَ على مدار الوقت، حفَّارك الذي لا تَجْرُؤُ أنتَ على مقاومة ما يَصْنَعُ بك، ولا يوجد قانون على الأرض يُجَرِّمُ ما يصنع حفَّارُك.
يُمَارَس عليك من الطقوس الجنائزية ما يُمَارَسُ على المسحور الذي تُعْوِزُه الإرادةُ ليَنْفضَ عنه ما تَلَبَّس به من سِحر، فينكسر وينكسر، وينتصر مَن سَحَرَه، الساحر الذي لم تُجَرِّبْ أنتَ أن ينقلبَ عليه سِحْرُه.
أحقا أنتَ مسحور يا أنتَ؟!
إلى متى تعبث بك ريح القَدَر الذي لا تجد أنتَ أمامه إلا أن تُفَوِّضَ أمرَك لمولاك، تُفَوِّضُ أنْتَ أَمْرَك لمولاك دون أن تَنْبسَ بِحرفٍ مما أشقاك.. يا ليلك السرمدي الذي تتمزق فيه أنتَ ضياعا ولا تُبْصِرُ لْلَيْلك آخرا، ولو أُوتِيتَ عينَيْ زرقاء اليمامة، وأنتَ الحمامة، الحمامة المسالِمة التي تَرْضخ لمصيرها، فتقول للنسر: «هَيْتَ لك».
أنتَ يا أنتَ تتمدد على صفيحة قَدَرك وتَصْرُخ ملء جوارحك «آاااااااه» وجُرْحُك ما أقساه! ما أقساه جُرْحُك الذي يَلْفظُك كالنواة الميؤوس منها، يلفظك جرحك لتتفجَّرَ كالكبريت، وتتفجر إنسانيتُك عند عتبة القهر الذي يُولد الانفجار تحت ضغط طنجرة الشجن، الشجن الذي يَمْتَصُّك شيئا فشيئا، بينما دفعة دفعة تنفجر أنتَ، تنفجر انفجارا في صمت.
في بحر الشجن لا تَرْسُو سفينةُ روحك المثقوبة عند شاطئ ولا مرفأ، في بحر الشجن تَحْمِلُك ريح إلى ريح، وموجة إلى موجة، ونوَّة إلى نوَّة..
وكورقة الشجرة تتلاعبُ بك ريح القَدَر..
تَغْرقُ أنتَ شيئا فشيئا، ولا يُشْقيك غرقُك ولا يقهرك، بينما يُشْقيك ويقهرك ما تُخَلِّفُه وراءك من حَمام حتى لا يقرأ الحمامُ ما ستعكسه لاحقا مرايا صمتك من وجع ووجع، الوجع الذي يُذيب حبَّةَ قلبك لو فطن الحمامُ إلى ما يَكُونُه وَجَعُ اليَمَام الذي تَتَقَلَّصُ أنتَ تحت وطأته وتنكمش إلى الممات، تماما كما ينكمش ويتقلَّصُ مريضُ ضمور العضلات.
هل يَلِيقُ بك ما ستفترشه لك الأيامُ من ريش تَكْتُبُ به الأيامُ خاتمتَك في ضوء مراسيم جنائزية تقولُ لِلِعَيْنِ «ادْمَعِي»، وتَأْمُرُ اللَّيْلَ أن يَئِنّ؟!
بين جُرْحَيْنِ تمشي أنتَ مسافة حياة، وبين قلبين تُؤَدِّي صلاة، صلاة عِشْق وأمل ما بعد الموت، ومازلتَ تَعْزِفُ في صمت على أوتار حَبَّة قَلْبِك، فَلْتَكُنْ لك أو عليك.

بقلم : د.سعاد درير
copy short url   نسخ
15/09/2016
1785