+ A
A -
«الطاعة» من موروثنا الثقافي والاجتماعي، فقد تعلمنا في بيت «مولانا» شيخ الحارة أو عميد القبيلة أن نجلس بصمت، ولا نتحدث إلا حين يسمح لنا، ومن يتمرد تلاحقه «اللعنة» والاتهامات والخيانة، والعصا الرقطاء كالحية.. كان «شيخ الحارة» جدنا الأكبر، طويل القامة، قاطب الحاجبين ولا يبتسم إلا بعد أن يخلو مع آخر وأصغر زوجاته.. جلست مرة تحت نافذة غرفته وارتفع صوتي بقصيدة للشاعر الكويتي «محمد الفايز» تقول:
تحت السقوف الواهيات كضلع مسلول
وفوق حصيرنا الدبق العتيق
في بيت «سيدنا» تعلمنا الكتاب
الحمد لله الذي خلق العظام من تراب..
إلى قوله واصفا «التعليم» عند «الكتاب»:
«رجل عجوز
وعصاه فوق رؤوسنا،
فأطل جدي برأسه من النافذة تسبقه عصاه صارخا:
يا ولد.. ماذا تقرأ.. لمن تقرأ.. أنت ولد متمرد.. أبوك متمرد، وإذا لم تحترم قيلولتي.. سأنفيك من البلدة.. عدت «طائعا» معتذرا بعد ان خاطبني والدي قائلا:
«يا أيها القرد الصغير».. هل تعلن على «مولاك» النفير.. قبل يديه.. وارفع قدميك «لفلقة».. وكان ما كان.. كبرنا.. وتغربنا.. وأصبح جدي وحكاياته ذكرى وعرفا.. فالطاعة مرسخة في الأعماق وإن لم نجد من نطيعه في «الحارة» نبحث عمن يقبل بنا أن نطيعه.
.. والحالة ليست على الولد «القرد الصغير» بل هي حالة عامة.. كل منا يبحث عن «شيخ حارة» يطيعه وتوسعت الحارة، وأصبحت بلدة، وكبرت البلدة، وأصبحت مدينة واتسعت المدينة وأصبحت دولة، واتسعت الدولة وأصبحت عالما، وعاد العالم ليكون قرية، ولتصغر القرية لتصبح من جديد «حارة» وللحارة شيخ جديد، لكن بيته من حديد، وعصاه سيف «مسلول» من ذهب، وتغير لون الطاعة، وشكل الطاعة، وعنوان الطاعة.. والمتمرد ليس قردا صغيرا، يستحق «الفلقة» بل مارقا يستحق الشنق.
فقد أصبحت «مارقا» وابن عمي «مارقا» وابن خالي «مارقا»، وابن عمتي «مارقا» وهناك الطائعون الذي أجادوا فن تعلم «الطاعة» في بيت «مولانا» يقفون مع «مولانا» جنودا يحمون حدود بيته خوفا من «المارقين» المفترضين.. وسقط أول المارقين ولم يرحمه «شيخ الحارة» فصهره ويستعد للإجهاز على «مارق» آخر يصر على أن يبقى ذلك الولد القرد الصغير الذي يرفض «عصا» العجوز الكبير ولم يتعلم فن «الطاعة» في بيت «مولانا».
بقلم : سمير البرغوثي