بقلم- يوسف منيرزميل باحث غير مقيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مع تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن واستلام أعضاء حكومته مناصبهم، يجد الجميع أنفسهم يحدّقون إلى السنوات الأربع الماضية وما نجم عنها من أضرارٍ تسبّبت بها إدارة دونالد ترامب التي غالبًا ما بدت مصرّة، تمام الإصرار، على إبطال مفعول كل خطوة اتخذتها إدارة كل من باراك أوباما وجو بايدن. إن البدء بمعالجة هذه الأضرار هو مشروع طموح على جميع الجبهات. وفي حين أنه يمكن إجراء بعض التغييرات فورًا بأمر تنفيذي، وهو الأمر الذي تعهّد فريق بايدن بالقيام به، فإنّ العديد من التعديلات والقرارات العكسية الممكنة ستستغرق وقتًا وجهدًا أكبر كثيرًا. وقد استعرض تقييم، نُشر مؤخرًا، بعض الأضرار التي وقعت خلال فترة إدارة ترامب في ما يتعلق بإسرائيل وفلسطين. وستناقش هذه الورقة مختلف العقبات التي تواجه إدارة بايدن في سعيها لإصلاح بعض تلك الأضرار.
نقطة انطلاق مختلفة
في حين قد يرى البعض في إدارة بايدن استمراريةً لرئاسة باراك أوباما (أو نسخة ما من «ولايتها الثالثة»)، وأن بايدن يبدو كأنه يعيد العديد من شخصيات الفريق السابق إلى حكومته، فإنّ الواقع هو أن العالم في عام 2020 مختلف تمامًا عن العام الذي تولى فيه أوباما منصبه في عام 2009.
ففي اليوم الذي انتُخب فيه باراك أوباما في عام 2008، خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار، مستأنفةً تصعيدًا أدى بدوره إلى قصف غير مسبوق لقطاع غزة المحتل والمحاصر. وخلّف الدمار الشامل الذي أحدثه الجيش الإسرائيلي نحو 1500 شهيد، نصفهم من المدنيين.
وكانت الحملة التي استمرت 22 يومًا، والتي شهدت العديد من المجازر وجرائم الحرب، قد استرعت انتباه العالم في الأيام الأخيرة من إدارة جورج بوش الابن؛ إذ تعثرت جهود السلام في الشرق الأوسط بعد مؤتمر أنابوليس عام 2007. وقد أصبح جليًّا أنه إضافة إلى التعامل مع مأزق الولايات المتحدة الأميركية المزدوج في العراق وأفغانستان التي تسبّبت به إدارة بوش، كان على أوباما أن يجعل إسرائيل وفلسطين في جدول أولوياته. صحيح أن أوباما عيّن فور استلامه الحكم السيناتور السابق جورج ميتشيل مبعوثًا خاصًا للشرق الأوسط، ولكن مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية وعملية تشكيل الحكومة ارتأت إدارته التريّث والترقّب عدّة أشهر. وخلال هذه الفترة، بدأ الرئيس أوباما في عرض مقاربته للعالمَين العربي والإسلامي، وهي مقاربة دعت إلى الانفراج في العلاقات مع إيران، واعترفت بمعاناة الفلسطينيين.
واليوم، يجد بايدن نفسه أمام مشهدٍ مختلفٍ تمامًا؛ إذ لم ينشب نزاع مسلّح في إسرائيل وفلسطين منذ الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2015. صحيح أن العنف الناجم عن الاحتلال العسكري لا يزال يمارس يوميًّا على نحو ثابت، إلّا أنه لم يتصدّر العناوين الرئيسة العالمية منذ فترة من الوقت. وبعكس عام 2008، لا يزال العالم العربي اليوم يعاني آثارًا مدمرة بسبب القمع الذي شهده الربيع العربي، والذي أدى إلى اندلاع حرب أهلية في بعض الدول، وعزّز سياسات القمع والمراقبة في دول أخرى. وقد أخذت أزمات حقوق الإنسان، والأزمات الإنسانية التي تسبّبت بها هذه السياسات، إضافة إلى مجموعة أخرى من التحديات تواجهها المنطقة، تسترعي الاهتمام. وبات القادة العرب اليوم في موقع مختلف عما كانوا عليه في عام 2008 في ما يتعلّق بإسرائيل؛ إذ قامت العديد من الأنظمة العربية بتطبيع علاقاتها معها، وهو ما أضعف أهمية مبادرة السلام العربية عام 2002. أما في الوقت الحاضر، فهناك ضغط ضئيل جدًّا يُمارس على إدارة بايدن المقبلة للانخراط فورًا في هذا النزاع؛ أكان من جهة إسرائيل، أو فلسطين، أو الدول العربية، أو المجتمع الدولي.
الشركاء
في عام 2009، بينما كانت إدارة أوباما تتسلّم زمام السلطة، كانت إسرائيل تخوض الانتخابات. وكانت نتيجة تلك الانتخابات، فوز الفريق الذي كان يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت الذي شارك سابقًا في مفاوضات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وذلك بأكثرية المقاعد عندما حصل حزب كاديما، بزعامة وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، على 29 مقعدًا. غير أن هذا الحزب فشل في تشكيل ائتلاف، وسلّم مقاليد السلطة إلى حكومة الليكود بقيادة بنيامين نتانياهو التي حكمت، بشكل أو بآخر، منذ ذلك الوقت. وظلّت السياسات الإسرائيلية تنحو نحو اليمين، وبقي نتانياهو شخصية مشهورة جدًّا في أوساط الإدارات الأميركية، ولا سيما في أوساط الديمقراطيين، مستخدمًا كل الأساليب لتنفيرهم. وخلال السنوات الخمس الماضية، أصبحت هذه الديناميكية أكثر وضوحًا عندما هاجم نتانياهو، بشكل مباشر، باراك أوباما وتقرّب من دونالد ترامب.
ومن المرجّح أن يمدّ بايدن يده لنتانياهو مرة أخرى. وفي حين قد تشهد بداية إدارة بايدن انتخابات إسرائيلية أخرى، فإنه ليس هناك من سبب وجيه لاعتقاد أنّ الناخبين الإسرائيليين سيعيدون انتخاب أي حكومة يمينية. وسيجادل نتانياهو، كما فعل على الدوام، وعلى نحو مقنع مع الناخبين الإسرائيليين، معتمدًا حجة أنه هو وحده القادر على التعامل بالطريقة الأفضل مع واشنطن واستنفاذ الجمهوريين، للحصول على أقصى ما يريده، ووضع حدّ للضغط الذي يمارسه الديمقراطيون. ومن دون شك، لن يجد بايدن في نتانياهو شريكًا مفيدًا؛ لا قبل الانتخابات، ولا بعدها.
أما بالنسبة إلى عباس، فإنّ الآفاق ليست أفضل كثيرًا؛ إذ إن الرئيس الفلسطيني المسنّ البالغ من العمر ستة وثمانين عامًا، يفتقر إلى الشرعية والصدقية والرؤية الاستراتيجية. وقد فقَد مؤخرًا أحد المقربين إليه، صائب عريقات، بسبب إصابته بفيروس كورونا، الذي كان له دور أساسي في إدارة العلاقة الفلسطينية مع واشنطن والعالم. انتقل عباس من محاولة استيعاب ترامب في بداية ولايته إلى قطع كل العلاقات به بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ومنذ الانتخابات، سارع عباس إلى العودة إلى التنسيق الأمني مع الإسرائيليين. إنه لا يملك أي رؤية استراتيجية غير الرهان على العودة إلى الوضع الراهن ذاته الذي كان يعانيه الفلسطينيون. ومن الواضح أن كلًّا من نتانياهو وعباس لن يعطي بايدن حافزًا لإحداث تغيير إيجابي.
الرصيد السياسي
تواجه إدارة بايدن الجديدة مجموعة كبيرة من القضايا المعقّدة المطروحة على جدول الأعمال من جهة، وتجد نفسها أمام ساحة محلية مشحونة بالعصبية الحزبية من جهة أخرى. وقد أدى التصادم بين نتانياهو ورئيس مجلس النواب الجمهوري آنذاك جون بوينر، في عام 2015، إلى تسييس غير مسبوق للدبلوماسية الأميركية؛ عندما انحاز الجمهوريون إلى موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي لمعارضة الاتفاق النووي الإيراني، أي خطة العمل الشاملة المشتركة. وتفاقم الوضع خلال سنوات ترامب، وهو ما سيشكّل أحد التحديات المباشرة لجهود السياسة الخارجية التي سيبذلها بايدن.
في مرحلة ما خلال فترة إدارته، أكّد الرئيس أوباما أنه يمكنه العمل بجدية؛ إما على الدبلوماسية الإيرانية، وإما على الدبلوماسية الإسرائيلية الفلسطينية، ولكن ليس على كلتيهما، ويعود ذلك خاصةً إلى الرصيد السياسي المحدود لديه. وربما راقت هذه الخطوة نتانياهو، حتى لو كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يفضل ألّا تأتي خطة العمل الشاملة المشتركة بثمارها، لكن من المؤكَّد أنه سيفضّل ذلك على أن يتعرّض لضغوطات لتقديم تنازلات في مشروعه الاستعماري في الضفة الغربية المحتلة. هل سيوافق بايدن على معارضة نتانياهو، كما فعل أوباما، ويضع القضية الفلسطينية جانبًا ويركّز على إيران بدلًا من ذلك؟ يبدو أنه سيفعل ذلك حتمًا. صحيح أن إدارة بايدن المقبلة التزمت العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أنها ستواجه بداية هشة. فكان من السهل على بايدن، أو على من عيّنهم من فريق الأمن القومي، إصدار بيان يدين الاغتيال الأخير لأكبر عالم نووي إيراني؛ إذ يشتبه، على نطاق واسع، في أن إسرائيل تقف وراءه، إلا أن معسكر بايدن لاذ بالصمت بدلًا من ذلك. ولم يصدر بيانًا، حتى لو كان مبهمًا، يعيد فيه الالتزام بالدبلوماسية.
يدلّ ذلك على أن فريق السياسة الخارجية لبايدن إما أنه تراجع عن هدف الدبلوماسية، وإما أنه، في حال كونه يسعى إلى تحقيق هذا الهدف، رأى أنّ التزامَ الصمت قبل جلسات التصديق المسيّسة هو المقاربة الأنسب. غير أنّ هذين الخيارين لا يُرجى منهما خير بالنسبة إلى الدبلوماسية الإيرانية؛ إذ يشيران إلى أن إدارة بايدن قلقة بالفعل من كونها لا تمتلك الرصيد السياسي الكافي لمواجهة القوى الحليفة لنتنياهو في الولايات المتحدة وخارجها. وإذا كانت خطة العمل الشاملة المشتركة هي الهدف الأساسي، فستكون إدارة بايدن أقل استعدادًا لخسارة رصيدها السياسي تجاه إسرائيل وفلسطين..
السيطرة على الكونغرس
حتى لو قررت إدارة بايدن القيام بالحد الأدنى من الجهود لمعالجة بعض التغييرات التي أجراها ترامب في مسألة إسرائيل وفلسطين، سيتعيّن عليها التعامل مع الكونغرس؛ إذ من المحتمل أن تصطدم بمعارضة، وهذه المعارضة لن تكون من جانب الجمهوريين فحسب، وهم الذين سعوا على نحو متزايد إلى استخدام إسرائيل مثل «كرة قدم» سياسية، بل من جانب الديمقراطيين المعتدلين أيضًا، الذين يريدون تقديم أنفسهم على أنهم مؤيدون لإسرائيل. يأتي هذا في وقت يتنامى فيه وسم العديد من الديمقراطيين بأنهم معادون للسامية من طرف خصومهم، إذا ما أظهروا أي انفتاح تجاه حقوق الفلسطينيين.
تكمن أبسط الخطوات العكسية التي قد يتخذها بايدن بشأن فلسطين، لمعالجة بعض الأضرار التي ألحقها ترامب، في إعادة بناء العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية. أما كيفية حدوث ذلك تحديدًا، فهو أمر معقّد وقد يحتاج إلى موافقة الكونغرس. ولطالما سعى الرؤساء للحصول على تنازلات للسماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالاحتفاظ بمكتبها في واشنطن العاصمة، لكنّ هذا الأمر أصبح مستحيلًا مع تعديل التشريعات التي تشدّد القيود في حال توجُّه المنظمة إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو في حال اتخاذ خطوات إضافية في الأمم المتحدة. وبعد أن لجأ الفلسطينيون إلى المحكمة الجنائية الدولية، عندما علموا بنية ترامب الاعتراف بالقدس على أنها إسرائيلية، لم يعُد في إمكان البيت الأبيض السعي للحصول على هذا التنازل بشكل قانوني. فضلًا عن ذلك، أقرّ الكونغرس قانون تعديل مكافحة الإرهاب Anti-Terrorism Clarification Act، في عام 2018، الذي يستهدف منظمة التحرير الفلسطينية بدعاوى مدنية في الولايات المتحدة إذا أعادت فتح مكتبها؛ ما يتيح لمجموعة واسعة من الجماعات القانونية المؤيدة لإسرائيل فرصةً لرفع دعاوى ضد المنظمة، وهي دعاوى لا نهاية لها، كما أنها ذات تكلفة كبيرة. وبحسب رئيسة مؤسسة سلام الشرق الأوسط، لارا فريدمان، فإنه توجد طرق للالتفاف على ذلك؛ إذ تشير إلى أن بايدن يمكنه أن يعلن أن قيود الكونغرس غير دستورية، بما أنّ العلاقات الخارجية هي من اختصاص السلطة التنفيذية. غير أن القيام بذلك سيتطلب مواجهة مباشرة مع الأطراف الفاعلة في اللوبي الإسرائيلي التي عملت على تطبيق القيود التي سيحاول بايدن التحايل عليها. لا يوجد ما يدلّ على أن بايدن يريد مثل هذه المواجهة، أو ما يدلّ حتى على أن النتيجة تستحق في نظره تلك التكلفة.
مقاربة عملية السلام
تشكّل حالة الاضطراب التي تشهدها عملية السلام، قيدًا إضافيًا على إدارة بايدن. فقد أمضى ترامب أربع سنوات في القضاء على عملية السلام إلى درجة بات من المستحيل الزعم أنها لا تزال قائمة. فقد ادّعت الإدارات السابقة أنها تصوغ استراتيجياتها ضمن صياغتها استراتيجية عملية سلام واسعة النطاق، وكانت تشجّع الأطراف أو تمتنع عن ذلك، بناءً على ما إذا كان ذلك سيعزّز العملية الدبلوماسية في تلك الفترة. ولكن مع تلكؤ الجهود الدبلوماسية حتى الآن، فإن كل ما يتبقى هو تثبيط التكاليف السياسية المحلية إلى حين ظهور رؤية مختلفة. ولا يبدو أن إدارة كلّ من بايدن، أو نتانياهو، أو عباس، مستعدة لتقديم هذه الرؤية البديلة، أو أنها قادرة على تقديمها. وبدلًا من ذلك، وحده هو الوضع الراهن ما تبقّى. وفي ظلّ غياب أيّ بدائل، لا يمكن أن يُتوقَّع من التكتيك الذي تتّبعه إدارة بايدن سوى دفع الرؤية القديمة والمهترئة قُدُمًا.
توقّع القليل
يُستبعد أن يقوم الرئيس جو بايدن بتغييرات كبيرة على صعيد السياسات الإسرائيلية والفلسطينية، وذلك لعددٍ من الأسباب، أهمها: جدول أعماله على الساحة المحلية، ورصيده السياسي المحدود. وحتى في السياسات التي ربما يكون قد اختلف فيها مع ترامب، أو كان يميل إلى تغييرها، سيواجه من دون شك، معارضة في كل خطوة يخطوها. وفي ظل غياب بعض الأزمات على الأرض، أو في المنطقة التي من شأنها إعادة تشكيل الصورة بأكملها، أو إحداث تغيير يطرأ على القيادة، أو جعل تكلفة الوضع الراهن عالية، قد تبدو إدارة بايدن الجديدة مختلفة أحيانًا عن إدارة ترامب عند الحديث عن إسرائيل وفلسطين. غير أنها لن تتخذ خطوات تُحدث تغييرًا جذريًا في الضرر الذي خلّفه ترامب. وفي حال حصول أي تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل وفلسطين خلال ولاية بايدن، فإنّ مثل هذا التغيير لن ينطلق من داخل البيت الأبيض.