«هذا هو الحُبّ الذي يجري في عروق رسائل قاومتْ إلى قلبِ عاشقٍ أمواجَ البحر.. قاومتْ غضبَ الرعد والبرق.. قاومتْ قُطّاعَ الطرق وعواصفَ الرمال..».
»السيد سمير البرغوثي يظلُّ عاشقَ الرسائل الذي يتقدمه حنينُه إلى زمن الرسائل والأشواق المتناثرة في سماء الحروف، الحروف التوّاقة إلى قُرّاء تتلبَّسُهم جريمةُ العشق الممنوح للحرف وهو سيد نبيل تتدافع الرقابُ إلى الانحناء له، يكفيها شرفُ الموت بين يديه..».
»الحُبّ! الحُبّ عرف طريقَه إلى الورقة، وتَمَدَّدَ على صفحات الرسائل التي اشتعلتْ به اشتعالا، ولم تَشْكُ (الرسائل) يوما من وطأة ناره التي تأكل القلوبَ ولا تأكل الورقَ..».
سعيدة بلُقْياكُم أحبّة الحَرْف، ولنا إطلالة جديدة..
وها نحن عُدْنا لنجدد موعدَ الوصل، ونجدف إلى حيث تأخذنا موجةُ الأدب الحالِم، أدب الرسائل الذي وقفْنا عند نوافذه المشرعة على الحنين والتَّوْق والانتظار والنار والاختيار..
وجدناه يَليقُ بانتظاراتنا أدبُ الرسائل هذا الذي دعانا إليه زميلنا في رحلة عشق الحرف قراءةً وكتابةً، نتحدث عن الكاتب الذي تسبقه لباقتُه إليك: سمير البرغوثي.
من خلال مقاله «أدب الرسائل في ذمة التكنولوجيا»، نتعرف أكثر فأكثر إلى سمير، سمير المشع بإشراق الحرف، المضيء بضوء الحرف، هو نفسه الكائن الحِبْرِي الذي تختبره الحياةُ بنار الحرف أو يختبره الحرفُ بنار الحياة.
في النهاية، فإن السيد سمير البرغوثي يظل عاشقَ الرسائل الذي يتقدَّمُه حنينُه إلى زمن الرسائل والأشواق المتناثرة في سماء الحروف، الحروف التّوّاقة إلى قُرّاء تتلبَّسُهم جريمةُ العشق الممنوح للحرف وهو سيد نبيل تتدافع الرقابُ إلى الانحناء له، يكفيها شرفُ الموت بين يديه..
قُلْنا ونُكَرِّرُ: في زمننا البائس كل شيء مُزَوَّر ومنسوخ وممسوخ، حتى الحُبّ، الحُبّ الصيني نِسبةً إلى زَيْفِه. صحيح أننا كنا سنؤجل متابعةَ القصة الطريفة عن الحُبّ الصيني إلى آخر المقال، لكن ارتأينا أن نستهلَّ بها هنا من باب فتح شهية القارئ.
فهل تصدقون في أي مدار تمضي قصة الحُبّ الصيني هذه؟! إنه مدار الرسائل أعزائي، فقصة هذا الحُبّ الأصفر (نسبة إلى القارة الصفراء) تعود بوادرها إلى رسائل، مجرد رسائل حالِمة عائمة في محيط موقع من مواقع التواصل.
فقد راجتْ في موقع اليوتيوب الشهر المنصرم قصة طريفة لها علاقة بالحُبّ الصيني هذا الذي أَشَرْنا إليه. وقد ورد في شريط فيديو أبطالُه ومُؤَثِّثاتُ فضائِه عبارة عن كلمات (وصورة يتيمة إن لم تَخُنّي الذاكرةُ) أن رجلا هولنديا تعرّف إلى امرأة صينية، ومن ثمة تكوَّنَ بين أسوار العالَم الافتراضي (الذي جَمَعَهُما) جَنينُ الحُبّ الذي وُلِدَ في قلب الرجل الهولندي، فلم يَجِدِ المسكينُ إلا أن يزفّ إلى مَن يُحِبُّها نبأَ شراء تذكرةِ طائرةٍ إلى الصين ليقف شاخصا أمام حبيبته.
المفاجأة بعد ذلك أن الرجلَ الهولندي (هذا الذي ذَكَّرَنا بأبطال بوليوود) يرَكبُ الطائرةَ ويحطّ في قلب الصين ليتحول إلى طائر حزين، فبعد أن يحلم باللقاء والعناق يتبدَّد حُلمُه حين تغيبُ المرأةُ الصينية كما لو جفّ فيها نهرُ الأشواق.
المشكلة ليست في كل هذا، إنما هي في كون الرجل (الذي بدا كالْمُغَفَّل حتى أنه نال من سخرية الْمُعَلِّقين نصيبَه) يلتصق بالمطار لمدة عشرة أيام لا يُبارحُه إلى أن يتمَّ نقله على سرير الإسعاف إلى المستشفى بعد أن يتمكنَ منه الإعياء.
والطريف والمؤلم بعد هذا أن تُبَثَّ حكايةُ الرجل على التليفزيون لتَظهر المرأةُ الصينية لاحقا وتقول إنها فسَّرت مواقفَ الرجلِ الهولندي الباردةَ معها على أنه يمزح بفكرة سفره إلى الصين لمقابلتها، كما بَيَّنَتْ أنها أثناء وصوله كانت بصدد إجراء عملية تجميل في ركن آخر من الصين بينما كان هاتفُها مغلقا.
انتهت القصة.
يقينا ستجدونها قصةً ساخرة، وقد تبدو للبعض منكم سخيفة، لكن لا تُنْكِرْ عزيزي أن هذا قد يحدث، قد يحدث في أي مكان شريطة أن يكون القلبُ ينبض حقيقةً لنصفك الآخر الذي قليل عليه أن تقطع البحارَ والمحيطاتِ من أجل أن تبلغ نشوةَ تَصَفُّح كِتابِ مُحَيَّاه وجَسِّ نبضِ قلبه الجَمُوح العاطفةِ بأصابع يديك المرتجفة كلما أوشكَتْ أصابعُه (أصابع قلبه) على معانقتها.
إنه الحُبّ، والحُبّ يَكْسِر شوكةَ جبروتك وتمردك، ويجعلك عجينةً يُشَكِّلُها على القوالب التي تُرْضيه وهو ينتشي بتأمل طيرانِ حروفِ رسائله إلى نصفك الآخر كحَمَام وديع.
إنه الحُبّ الذي عَصفَ بعُروش وأطاح بقِلاعٍ وأحرقَ وأغرقَ.. الحُبّ الذي صرخ له ابن زيدون كما صرختْ صاحبته أميرة الأندلس ولاّدة بنت المستكفي ببيتيها الشهيرين:
«أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن عاشقي من صحن خدّي
وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها» (ولادة بنت المستكفي).
الحُبّ! الحُبّ الذي يُجَمِّلُ طلعتَكَ أنتَ ويبعث الأنوارَ في سماء وجهكَ وتُشْرِقُ له عيناكِ أنتِ وتُضيءُ به غمَّازَتاكِ كما لم تُضيئا من قبل ويُلَوِّنُ شفتيكِ بلون الورد أكثر مما قد تُلَوِّنُه أصابع شفاهٍ فتسحرهم (الناظرين إليك) إطلالتُكِ.. هذا هو الحُبّ..
هذا هو الحُبّ الذي يجري في عروق رسائل قاومتْ أمواجَ البحر ونَوَّاتِه (جمع نَوَّة) وهي تُبْحِر في حضن باخرة إلى قلبِ عاشق(ة)، رسائل قاومتْ غضبَ الرعد والبرق وهي تحلِّق على ظهر طائرة إلى قلبِ عاشق(ة)، رسائل قاومتْ قُطَّاعَ الطرق وعواصفَ الرمال وهي تَزْحَفُ على جنبات سفينةِ صحراء إلى قلبِ عاشق(ة)..
الحُبّ! الحُبّ عرف طريقَه إلى الورقة، وتَمَدَّدَ على صفحات الرسائل التي اشتعلتْ به اشتعالا، ولم تَشْكُ يوما من وطأة ناره التي تأكلُ القلوبَ ولا تأكلُ الورقَ.
عن تلك الرسائل وذاك الورق، نعود إلى حجرة غوستاف فلوبير، فلوبير صاحب رائعة «مدام بوفاري» الروائية، وكان فلوبير هو الآخر بطلا من أبطال الرسائل.
مراسَلاتُ فلوبير عنوانُها جورج ساند، «جورج ساند» التي قيل إنها بَلَغَتْ مبلغَ أن يعتبرها دوستويفسكي رمزاً للمرأة الفريدة في موهبتها.
فمن يكون بطل الرسائل التي كتبتها ساند؟
إنهم أبطال. وكان فلوبير واحدا منهم.
إنه غوستاف فلوبير، فلوبير الذي وَجَدَ نفسَه كغيره من المثاليين ينزع إلى ميوله الانتحارية بعد صدمته في واقع خيَّبَ آمالَه.
فكيف تراءت له جورج ساند؟
يقينا شَكَّلَتْ جورج ساند الأذنَ المرهَفةَ التي تتفرغ لتَسمعَه وتُنصِت بحكمة وتَمُدّ له جسرَ الحوار.
جورج ساند ما هو سوى الاسم المستعار للأديبة الفرنسية أرماندين أورور، هذه التي احترفَت الكتابةَ، ومنها كانت تُنْفِقُ على صغارها بعد طلاقها وقد ساهمت برسائلها ومذكراتها في تشييد صَرْحٍ يؤسس لقلعة التاريخ.
لكن ما الذي حَوَّلَ أرماندين أورور لوسيل دوبان إلى جورج ساند؟!
إنها إرادة صديق أرماندين المثقف «جول ساندو» الذي فَكَّرَ لها في اسم جورج ساند، فوَجَدَهُ يليق بها.
كيف لا يليق بها، وهي القادمة من الأرياف شقّت طريقَها إلى التحرُّر وعُرِفتْ بمظهرها الذكوري متقمِّصةً شخصيةَ الرَّجُل ببِنْطالِه وقميصه وما جاورهما من سجائر وقس على ذلك..
لكن ما أدرانا بأن ما كان يجمع بين غوستاف وأرماندين (ساند) هو صداقة أم حُبًّ؟!
لا تهمنا طبيعة العلاقة بينهما، بقدر ما تهمنا رسائلهما. ولا يختلف اثنان في أن جورج ساند من أكثر الأديبات شُهرةً في مجال كتابة الرسائل، تكتبها بخفّةِ نحلةٍ تنقل العسلَ، وكان الأدباءُ وقتها الأزهارَ التي تُحفِّزُ جورج ساند على أن تعبق بكل ذاك الأريج الذي انعكس جَلِيا في كتاباتها.
ولعل هذا ما جعل فلوبير يُقْبِلُ على مراسلة أرماندين التي كانت تتذوق الحُبَّ بِقَدْرِ تذوقها للفنّ.. لذلك كتب لها فلوبير في إحدى مراسلاتهما قولتَه الشهيرة مقدِّساً الفنَّ: «ليس أمام الفنان سوى سبيل واحد: أن يضحِّي بكل شيء من أجل الفنّ».
لكن هل تتصور أن يكتب رَجُل لامرأة أو تكتب امرأة لرَجُل لو لم يكن موجودا الارتياح والإعجاب والتجاوب؟!
هل يعقل أن يُنْفِقَ أحدُهما وقتَه في وصل الآخر بالرسائل لو لم يكن هناك إحساس بالأمان (والإدمان) وحاجة كل منهما للآخر؟!
هل يُعْقَل أن امرأةً مثل أرماندين (جورج ساند) اشتهرتْ بعاطفتها الملتهبة وجُرأتها (وقد أَحَبَّتْ من الأدباء والفنانين جول ساندو وشوبان وأوجين دولاكروا وألفريد دو موسيه، لا يرَكع قلبُها لرَجُل مثالي حسَّاس مثل فلوبير؟!
هل يعقل أن غوستاف فلوبير الذي زهد في الواقع الرتيب (الذي جعله يشعر بالغثيان من فرط تجرعه لكأس الحياة الْمُرَّة) ينكفئ على مراسلة أرماندين ويَجِد لها الوقتَ (هو الذي لا يجد الوقتَ لغير الكتابة) لو لم يشعرْ تجاهَها بحلاوة الإحساس الذي يربط مُعَذَّبا غريقا بقشَّة، وأي قشَّة؟! فهي (أرماندين) ملِكة الرومانسية والإحساس التي انحنَتْ لها قاماتُ ملوك الأدب والفنّ وقبَّلَتْ حروفُهم وإبداعاتُهم يديها؟!
فلوبير المتذمِّر من ضَيْقِه بالحياة وجدَ في مراسلة أرماندين وسادةً ناعمةً يحنُّ إليها عنقُه وكتفاه كما حَنَّ إليها سواه من رجال الأدب والفنّ، وكان فيكتور هيجو VICTOR HUGO واحدا منهم وقد قويتْ صداقتُه لها عبر المراسلة هي التي حطَّمَت الرقمَ القياسي في كتابة الرسائل.

بقلم : د.سعاد درير