روى «أحمد بن يوسف الكاتب» في كتابه «المكافأة وحُسن العُقبى»، أنَّ «هارون بن ملُّول» ورثَ عن أبيه مالاً، فجعل يُسرِفُ في إنفاقه يمنةً ويسرةً، بلا حسابٍ ولا عدٍّ!

ودخل عليه ذات يوم صديق أبيه «إسحاق بن تميم»، فلما رأى حاله قال له: لقد سرَّني حُسن لباسك، وإقبالك على الدنيا، فبارك اللهُ لكَ بما ورثتَ عن أبيك! ثم قام وخرج من عنده، ولما كان المساء أرسل خادمه إلى هارون يقول له: إنَّ عندي الليلة أصدقاء أبيك، وهم في شوقٍ إلى رؤياك، فتعالَ إليّ نواسيكَ فقده، ونتواسى بكَ فقد صديقنا القديم!

فلما دخل هارون إلى المجلس، وجد كل أصدقاء أبيه، فأشار إسحاق إلى خدمه بيده، فوثبوا على هارون وقيدوه، وصاح به قائلاً: يا جاهل، تتوهم أنَّ أباكَ مضى واسترحتَ من رقابته، ولا تعلم أن أباكَ تركَ لكَ هؤلاء جميعاً وكلهم لك أب، يردُّونكَ عن الخطأ بأليم العقوبة؟!

وقاموا إليه جميعاً يوبخونه، وما تركوه حتى تعهد لهم أن يحفظ مال أبيه، ولا ينفقه إلا بحقه!

فانصلح حال هارون، وكان كلما لقي صديقاً لأبيه حيَّاه قائلاً: مرحباً بأبي بعد أبي!

الحُبُّ والصُّحبةُ لا يموتان بموت من كنا نحبه ونصاحبه، فهذا من خوارم الحُب، وسوء الصحبة!

وانظروا لأصدقاء الأب كيف أخذوا على يد ابنه بعد أن مات، وقالوا له: كلنا لكَ أب!

تفقدوا من ترك أحبابكم وأصحابكم وراء ظهورهم، فالحب والصحبة لا تطويهما أطباق التراب!

لقيَ عبدالله بن عمر أعرابياً، فأجزل له في العطاء، فقيل له: يرحمُكَ الله، هؤلاء الأعراب يكفيهم القليل!

فقال لهم: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب!

يا للنبل والوفاء يا ابن عمر، يُكرمُ ابناً لرجلٍ كان بينه وبين أبيه ود!

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد جاوز الستين حين لقي نسوةً عجائز، فخلع رداءه وأجلسهنَّ عليه، ونظر لمن حوله يُبدد دهشتهم قائلاً: هؤلاء صويحبات خديجة!

يا للحُب يا رسول الله، يا للحُب! لأجل عين خديجة ألف عينٍ تكرمُ!

وما أنبله من نبيٍّ حين قال: إنَّ حُسن العهد من الإيمان!