في 12 يونيو الماضي، تبنى قادة «مجموعة السبع» الذين يسعون لمنافسة الصين خطة طموحة طرحتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لدعم البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط في بناء بنية تحتية أفضل، وقال الرئيس الأميركي بشأنها إنه يريد أن تكون الخطة «Build Back Better World B3W» المدعومة من الولايات المتحدة بديلاً عالي الجودة لبرنامج صيني مشابه، في إشارة لمشروع «الحزام والطريق» الذي قطعت فيه الصين أشواطاً كبيرة في الأعوام الماضية، لكن «الحزام والطريق» يواجه انتقادات شديدة تتعلق بإغراق الصين للدول المشتركة في المشروع بالديون.
وقد يبدو للبعض أن سياسات بايدن بالتوجه نحو مواجهة الصين واحتوائها واتباع سياسة تشبه سياسة مواجهة الاتحاد السوفياتي والخطر الشيوعي في شرق أوروبا، لكن سياسات مواجهة التنين الصيني لها جذور منذ وصول أوباما للسلطة في 2009، حيث وضعت الإدارة الأميركية تصورها الاستراتيجي للعام 2010 بالتوجه أكثر نحو المحيط الهادئ ومنطقة الباسيفيك لمواجهة النفوذ المتصاعد للصين في هذه المنطقة والعالم. وعلى نفس النهج، سارت وخاضت إدارة ترامب حرباً تجارية شرسة ضد الصين، ومؤخراً بعد شهر ونصف في البيت الأبيض، أصدرت إدارة بايدن في بداية مارس الماضي وثيقة «التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي»، التي تتضمن توجهات الإدارة الجديدة لوكالات الأمن القومي حتى تتمكن من العمل على مواجهة التحديات العالمية، وكان التركيز على مواجهة الصعود الصيني محورها، في إطار تكريس سياسة المواجهة مع الصين، ومنذ ذلك الحين تتواتر تصريحات المسؤولين الأميركيين عن ضرورة مواجهة الصين فهل تفلح المعطيات الذاتية في الدفع بهذا الاتجاه؟
كورونا.. كيف عزز التوجه نحو
محاولات احتواء صعود الصين؟
مثلت أزمة كورونا ظرفاً مثالياً لتصعيد خطاب مواجهة الصين إلى السطح مرة أخرى، خاصة أن إدارة ترامب قد بدأت الأزمة باتهامات للصين بتخليق الفيروس في معامل مدينة ووهان الصينية، ومن ثم حملتها المسؤولية المباشرة عن هذا الانتشار الوبائي الكارثي للفيروس وكرست هذا بالانسحاب الأميركي من منظمة الصحة العالمية، باعتبارها متواطئة مع الصين حد توصيفه لها في بداية الأزمة بأنها دمية للصين، وإعطائها مهلة تنتهي بعد فترة 30 يوماً تلتزم خلالها المنظمة «بتحسينات ملموسة»، وإلا خاطرت بفقدان ملايين الدولارات وعضوية الولايات المتحدة معاً، وهو الوعد الذي نفذته إدارته.
ورغم الاستياء المحلي والعالمي من النبرة الشعبوية في خطاب ترامب تجاه الصين ومنظمة الصحة العالمية واستغلال الديمقراطيين لذلك في إطار التنافس الانتخابي، فإن إدارة بايدن اتخذت قراراً بتوسيع التحقيق في أصل وباء «كوفيد - 19»، مع ميل إحدى وكالات الاستخبارات إلى فرضية تسربه من مختبر ووهان، ما أدى إلى ظهور صدع جديد في علاقة إدارته المتوترة بالفعل مع الصين منذ سنوات ترامب، وهو الأمر الذي قوبل برد فعل صيني كان غاضباً، إذ صورت الصين إعلان بايدن على أنه جزء من صراع جيوسياسي أوسع.
وتدرك الولايات المتحدة أن الصعود الصيني لم يعد صامتاً ولم يعد اقتصادياً فقط بل إن مشروعها «الحزام والطريق» يتم بالتوازي مع سلسلة تحركات عسكرية ونشر للقواعد خارج الحدود لأول مرة في مناطق جديدة مثل القاعدة الصينية في جيبوتي في الأول من أغسطس 2017، والتي برغم إعلان الصين أنها لإمداد سفن القوات البحرية التي تشارك في مهام حفظ السلام والإغاثة قبالة سواحل اليمن والصومال، فإن الهند والولايات المتحدة تشيران بحسب رويترز إلى مخاوف من أن تصبح جيبوتي حليفاً عسكرياً جديداً للصين فيما يعرف باسم «سلسلة اللآلئ» بجانب بنغلاديش وميانمار وسريلانكا التي تحيط بالهند.
دبلوماسية فخ الديون
قدمت الصين نفسها إلى بلدان إفريقيا وحكوماتها باعتبارها بلداً بلا تاريخ استعماري للقارة السمراء، كما أنها تمثل أصوات الدول النامية في النظام الدولي ومؤسساته المالية الدولية سواء البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي. لكن اتبعت الصين ما يعرف بدبلوماسية «فخ الديون» كإحدى أهم أدوات السياسة الخارجية الصينية في إفريقيا، إذ تصدر الصين نفسها كقوة رائدة على مستوى العالم في تطوير البنية التحتية، حيث شهدت نمواً اقتصادياً سريعاً منذ الإصلاح والانفتاح في ظل دينغ شياو بينغ بسبب استراتيجية التنمية القائمة على البنية التحتية.
باستخدام الديون رهنت العديد من الحكومات حول العالم موانئها ومساحات شاسعة من الأراضي للحكومة الصينية لمدد زمنية تصل لـ99 عاماً كما حدث مع كل من باكستان وبنغلاديش وسريلانكا وكينيا وجزر المالديف، والعديد من دول إفريقيا مهددة بفقدان أصولها الاستراتيجية جراء توسعها في الاستدانة من الصين وتعثرها في السداد، وهو ما تعتبره الصين خطوة على طريق الصدارة وسيطرتها على التجارة والديون والأدوات الاقتصادية في العديد من المناطق وعلى رأسها إفريقيا.
مع أزمة كورونا وتداعياتها على القارة الإفريقية والاقتصادات الفقيرة والنامية عموماً، حاولت عدة حكومات غربية وقادة «مجموعة العشرين» وفقاً لبعض التحليلات، إحراج الصين بمطالبتها بتخفيف عبء الديون عن البلدان الإفريقية. لكن لطالما ردت الصين بأنها لم تخلق هي أزمة الديون تلك وأنها تفضل التعامل الثنائي في هذه المسألة بعيداً عن الأطر الجماعية ولم تقدم تنازلاً كبيراً في هذه المسألة، وتمثل تلك المطالبات اختباراً حقيقياً لطريقة إدارة الصين لدورها في مواجهة تداعيات أزمة كورونا ولتصورها لدورها في النظام العالمي ما بعد الكورونا، إذ سيكون عليها معالجة تعثرات شركائها التجاريين والدول المدينة لها. الصين مطالبة بإثبات قدرتها على التعامل مع أزمة تفاقم الديون الإفريقية في ظل أزمة وبائية عالمية وتوقعات بتباطؤ شديد لنمو معظم الدول الإفريقية جنوب الصحراء، مع ذلك يتوقع أن تخرج الصين من الأزمة بعلاقات أقوى مع دول إفريقيا سواء عبر دبلوماسية «فخ الديون» التي ستتزايد الحاجة الإفريقية إليها أو بدبلوماسية الكمامات التي أجادتها بكين بشكل كبير، وإن بقيت المعضلة الثقافية عائقاً أمام تغلغلها أكثر في القارة الإفريقية وبلدان عدة لكن يظل الاقتصاد عاملاً أكثر حسماً في تحديد مناطق النفوذ والسيطرة في عالم ما بعد القطبية الأحادية الذي تعيد تشكيله الصين وحلفاؤها.
المعضلات الذاتية للاقتصاد
الأميركي وتزايد التحديات الخارجية
تعاني الولايات المتحدة الأميركية من أزمة مالية طاحنة منذ أكثر من عقد، إذ لم يتخلص اقتصادها من تبعات أزمة الرهن العقاري عام 2008 بعد. ويضاف لتلك الأزمة مجموعة من الأزمات الداخلية التي سببها وباء كورونا من تباطؤ الاقتصاد العالمي وتدهور الفرص الاقتصادية التي حاولت خلقها بتحقيق اكتفاء من النفط الصخري والتوجه لتصديره في وقت انهارت أسعاره لأقل بكثير من سعر تكلفته أثناء الأزمة. تلك الإشكالات عززت من أهمية تفعيل استراتيجيات لمواجهة الصين، فمن تبعات تلك الأزمة سلسلة من التقليصات للإنفاق العام ومن ضمنها تقليص ميزانية وزارة الدفاع الأميركية اتفق عليه في العام 2011 وبدأ تنفيذها منذ العام 2013 بخصم ما قيمته 46 مليار دولار سنوياً من ميزانية وزارة الدفاع لتستمر بعده سلسلة التقلصات لعشر سنوات لاحقة تنتهي في 2023، وقد لا تنتهي في ذلك التوقيت بسبب تداعيات كورونا مما يؤثر في جاهزية القوات العسكرية الأميركية وقدرتها.
إن المسألة ليست مرتبطة بفلسفة أوباما وترامب والإدارات الأميركية المتعاقبة فحسب، بقدر ما هي مرتبطة أيضاً بإمكانات الولايات المتحدة الأميركية وقدراتها اقتصادياً وعسكرياً، وكثرة التحديات التي تواجهها سياستها الخارجية.
وفي هذا السياق، فإن الصين تبدو المستفيد الأكبر من المعاناة الأميركية، إذ إنها المستثمر الأكبر في أدوات الدين الأميركية وتوجه انتقادات حادة للسياسات الأميركية وتصف تعامل واشنطن مع أزمة الديون بأنه غير مسؤول وغير أخلاقي. واتهمت الصحافة الصينية السياسيين الأميركيين بالتضحية بمصالح الشعوب الأخرى في سبيل حفنة من الأصوات، في حين استغل رئيس الوزراء الروسي حينها فلاديمير بوتين الأزمة، واصفاً واشنطن بأنها تتطفل على الاقتصاد العالمي وتعيش على الديون وليس على قدراتها الاقتصادية. صحيح أن الاقتصاد الأميركي وجد مخرجاً للعديد من معضلاته في الصفقات الضخمة وغير المسبوقة التي وقعها ترامب مع حكام الخليج في مايو من العام 2017، وصحيح أن شركات التكنولوجيا الأميركية كانت المستفيد الأكبر من أزمة كورونا وقفزت قيمها السوقية وأرباحها كثيراً، وبينما تحدثت تقارير عن تجاوز الناتج القومي الإجمالي للصين نظيره الأميركي بمعيار تعادل القوة الشرائية، فإن التقارير الأكثر تفاؤلاً بمستقبل الولايات المتحدة تتحدث عن تجاوزه بحلول 2028. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بمستوى دخل للفرد يبلغ ستة أضعاف نظيره في الصين، لكن القطاعات الإنتاجية في الصين كانت المستفيد الأكبر كما أن الصين عززت نفوذها عبر ما يعرف بدبلوماسية الكمامات، إذ بينما كانت الولايات المتحدة منشغلة تماماً بالأزمة الطاحنة المتعلقة بالتعامل الداخلي مع الانتشار الأكبر للفيروس في العالم. وقامت الصين بتقديم مئات الآلاف من أطنان المستلزمات الطبية إلى العديد من البلدان حول العالم سواء لتحسين صورتها أو للترويج لقدراتها في المجال الطبي وإثبات كونها نموذجاً غير غربي ناجحاً للسيطرة على الوباء.
ورغم فرض ترامب العديد من القيود على الواردات الصينية حد الخوض في حرب تجارية معها، فإنها وفقاً لتحليلات خسرت حربها الاقتصادية مع الصين، إذ رفعت قيمة السلع الصينية كثيراً، إلا أن عجز الميزان التجاري مع الصين قد تزايد، وتزايدت قدرة الصين على فرض عقوبات مماثلة، ففي سبتمبر عندما 2019 قامت إدارة ترامب بزيادة التعريفات الجمركية على واردات صينية بقيمة 125 مليار دولار أميركي، مما دفع الصين إلى الرد بفرض تعريفات جمركية على واردات أميركية بقيمة 75 مليار دولار أميركي، لاحقاً في ديسمبر من العام نفسه ارتفع إجمالي قيمة السلع الصينية الخاضعة للتعريفات الجمركية العقابية إلى قرابة نصف تريليون دولار أميركي، كان ترامب يعتقد أن التعريفات الجمركية ستكون كفيلة بتركيع الصين وتغيير ما يزعم أنها ممارسات تجارية غير عادلة للولايات المتحدة، مع ذلك تحملت السوق الأميركية كلفة ارتفاع أسعار الواردات الصينية، كما أن التعريفات الجمركية ضربت المستهلك الأميركي بدرجة أكبر من نظيره الصيني، وعرضت الاقتصاد الأميركي للخطر وهددت التجارة الدولية وأخفقت في تخفيض العجز.
ومع ذلك، فإن الأزمة قادت لسلسلة من الاحتجاج على السياسات الاقتصادية لإدارة ترامب ومن ثمت معاقبته واليمين المؤيد له بانتخاب بايدن، والذي وقّع وفقاً لتقارير ترجح عدم القدرة على تخفيض ميزانية الدفاع، على خطة للإغاثة بقيمة 1.9 تريليون دولار، بهدف تحفيز الاقتصاد الأميركي، يحاول الدفع بخطة جديدة للوظائف الأميركية، تبلغ قيمتها تريليوني دولار لإعادة بناء البنية التحتية في البلاد. كما أنه يتعهد بمتابعة تلك الخطط جنباً إلى جنب مع خطة العائلات الأميركية المعنية بتحسين الرعاية الصحية، ورعاية الأطفال، والتعليم، والتي قد تكلف عدة مليارات، أو ربما تريليونات من الدولارات، ما يثير حفيظة المجمع الصناعي العسكري الأميركي ومقاولي الدفاع واللوبي التابع لهم والذي يضم الكثيرين من الخبراء المقربين من إدارة بايدن والقادرين على ضمان عدم تقليص ميزانية وزارة الدفاع.
لكن هذه الخطط الطموحة للإنفاق العام الكبير لتعويض الخسائر الناجمة عن أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية تقتضي مزيداً من الاستدانة، ومن ثم مزيداً من حساسية الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية للدائنين والشركاء الأوروبيين وحلفائها في الشرق الأوسط وفي المحيط الهادئ وآسيا على السواء.
وعلى الرغم من ارتفاع درجة الاستقطاب في النظام السياسي الأميركي حالياً بصورة غير مسبوقة، فإن هناك قدراً لا بأس به من الإجماع على ضرورة مواجهة سياسات الصين بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل ربما يكون هذا هو الملف الوحيد الذي يحظى بنسبة تأييد عالية لدى كلا الفريقين سواء بسبب تداعيات كورونا أو بسبب حسم الجدل الممتد لقرابة عقدين حول الصعود الصيني والقلق بشأن قدرة الولايات المتحدة على مجابهته.
خاتمة
في التحليل الأخير، يبقى الاقتصاد الأميركي واقتصاد الشركاء الأوروبيين في حاجة ماسة للاقتصاد الصيني رغم محاولات إعادة السياسات الحمائية بشكل كبير، كما أن مكونات الثورة الجديدة في مجال الاقتصاد الرقمي جعلت من المستحيل أن تكون هناك فواصل بين الداخلي والخارجي حيث هناك اتجاه تجاري باحث عن الفرص والأرباح يتجه نحو الصين والهند والبلدان ذات العمالة والموارد الخام الرخيصة لتركيز أنشطته فيها، وعلى الرغم من أن مراكز العديد من هذه الشركات تقع في الولايات المتحدة وشركائها من الدول الأوروبية فإن العديد منها يملكها صينيون وتنتقل أسهمها بين بورصات العالم.
تبدو السياسة الخارجية الأميركية اليوم أكثر بحثاً عن شركاء لتحمل أعباء قيادة وتسيير النظام الدولي بدلاً من أن تتحملها وحدها، وهذا ما يفسر التحالفات التي تحاول إنشاءها في مواجهة الصين أو تفويضها لتركيا في مسألة حفظ الأمن في بعض المرافق في أفغانستان عقب الانسحاب الأميركي منها أو ما اتخذته سابقاً من سياسات للتعامل مع التحديات في الشرق الأوسط في ظل إدارة ترامب من تحميل الشركاء للتكلفة المباشرة لتواجد القوات الأميركية أو للعمليات التي تقوم بها الولايات المتحدة وشركاؤها بعد الانسحاب من المنطقة.
وتبقى القدرات الصينية على المراوغة واستغلال الأوضاع والتطورات الداخلية في الولايات المتحدة ومناطق نفوذها، عالية وتتميز بانخفاض تكلفة سياساتها الخارجية والتي تنفذها أحياناً عبر شركاء كروسيا وإيران أو بشكل مباشر بأدوات اقتصادية فعالة وشديدة القدرة على خلق شركاء وتبعيات جديدة بصفقات كبرى للسيطرة على الموانئ والبنى التحتية في الدول النامية.
وقد يبدو للبعض أن سياسات بايدن بالتوجه نحو مواجهة الصين واحتوائها واتباع سياسة تشبه سياسة مواجهة الاتحاد السوفياتي والخطر الشيوعي في شرق أوروبا، لكن سياسات مواجهة التنين الصيني لها جذور منذ وصول أوباما للسلطة في 2009، حيث وضعت الإدارة الأميركية تصورها الاستراتيجي للعام 2010 بالتوجه أكثر نحو المحيط الهادئ ومنطقة الباسيفيك لمواجهة النفوذ المتصاعد للصين في هذه المنطقة والعالم. وعلى نفس النهج، سارت وخاضت إدارة ترامب حرباً تجارية شرسة ضد الصين، ومؤخراً بعد شهر ونصف في البيت الأبيض، أصدرت إدارة بايدن في بداية مارس الماضي وثيقة «التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي»، التي تتضمن توجهات الإدارة الجديدة لوكالات الأمن القومي حتى تتمكن من العمل على مواجهة التحديات العالمية، وكان التركيز على مواجهة الصعود الصيني محورها، في إطار تكريس سياسة المواجهة مع الصين، ومنذ ذلك الحين تتواتر تصريحات المسؤولين الأميركيين عن ضرورة مواجهة الصين فهل تفلح المعطيات الذاتية في الدفع بهذا الاتجاه؟
كورونا.. كيف عزز التوجه نحو
محاولات احتواء صعود الصين؟
مثلت أزمة كورونا ظرفاً مثالياً لتصعيد خطاب مواجهة الصين إلى السطح مرة أخرى، خاصة أن إدارة ترامب قد بدأت الأزمة باتهامات للصين بتخليق الفيروس في معامل مدينة ووهان الصينية، ومن ثم حملتها المسؤولية المباشرة عن هذا الانتشار الوبائي الكارثي للفيروس وكرست هذا بالانسحاب الأميركي من منظمة الصحة العالمية، باعتبارها متواطئة مع الصين حد توصيفه لها في بداية الأزمة بأنها دمية للصين، وإعطائها مهلة تنتهي بعد فترة 30 يوماً تلتزم خلالها المنظمة «بتحسينات ملموسة»، وإلا خاطرت بفقدان ملايين الدولارات وعضوية الولايات المتحدة معاً، وهو الوعد الذي نفذته إدارته.
ورغم الاستياء المحلي والعالمي من النبرة الشعبوية في خطاب ترامب تجاه الصين ومنظمة الصحة العالمية واستغلال الديمقراطيين لذلك في إطار التنافس الانتخابي، فإن إدارة بايدن اتخذت قراراً بتوسيع التحقيق في أصل وباء «كوفيد - 19»، مع ميل إحدى وكالات الاستخبارات إلى فرضية تسربه من مختبر ووهان، ما أدى إلى ظهور صدع جديد في علاقة إدارته المتوترة بالفعل مع الصين منذ سنوات ترامب، وهو الأمر الذي قوبل برد فعل صيني كان غاضباً، إذ صورت الصين إعلان بايدن على أنه جزء من صراع جيوسياسي أوسع.
وتدرك الولايات المتحدة أن الصعود الصيني لم يعد صامتاً ولم يعد اقتصادياً فقط بل إن مشروعها «الحزام والطريق» يتم بالتوازي مع سلسلة تحركات عسكرية ونشر للقواعد خارج الحدود لأول مرة في مناطق جديدة مثل القاعدة الصينية في جيبوتي في الأول من أغسطس 2017، والتي برغم إعلان الصين أنها لإمداد سفن القوات البحرية التي تشارك في مهام حفظ السلام والإغاثة قبالة سواحل اليمن والصومال، فإن الهند والولايات المتحدة تشيران بحسب رويترز إلى مخاوف من أن تصبح جيبوتي حليفاً عسكرياً جديداً للصين فيما يعرف باسم «سلسلة اللآلئ» بجانب بنغلاديش وميانمار وسريلانكا التي تحيط بالهند.
دبلوماسية فخ الديون
قدمت الصين نفسها إلى بلدان إفريقيا وحكوماتها باعتبارها بلداً بلا تاريخ استعماري للقارة السمراء، كما أنها تمثل أصوات الدول النامية في النظام الدولي ومؤسساته المالية الدولية سواء البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي. لكن اتبعت الصين ما يعرف بدبلوماسية «فخ الديون» كإحدى أهم أدوات السياسة الخارجية الصينية في إفريقيا، إذ تصدر الصين نفسها كقوة رائدة على مستوى العالم في تطوير البنية التحتية، حيث شهدت نمواً اقتصادياً سريعاً منذ الإصلاح والانفتاح في ظل دينغ شياو بينغ بسبب استراتيجية التنمية القائمة على البنية التحتية.
باستخدام الديون رهنت العديد من الحكومات حول العالم موانئها ومساحات شاسعة من الأراضي للحكومة الصينية لمدد زمنية تصل لـ99 عاماً كما حدث مع كل من باكستان وبنغلاديش وسريلانكا وكينيا وجزر المالديف، والعديد من دول إفريقيا مهددة بفقدان أصولها الاستراتيجية جراء توسعها في الاستدانة من الصين وتعثرها في السداد، وهو ما تعتبره الصين خطوة على طريق الصدارة وسيطرتها على التجارة والديون والأدوات الاقتصادية في العديد من المناطق وعلى رأسها إفريقيا.
مع أزمة كورونا وتداعياتها على القارة الإفريقية والاقتصادات الفقيرة والنامية عموماً، حاولت عدة حكومات غربية وقادة «مجموعة العشرين» وفقاً لبعض التحليلات، إحراج الصين بمطالبتها بتخفيف عبء الديون عن البلدان الإفريقية. لكن لطالما ردت الصين بأنها لم تخلق هي أزمة الديون تلك وأنها تفضل التعامل الثنائي في هذه المسألة بعيداً عن الأطر الجماعية ولم تقدم تنازلاً كبيراً في هذه المسألة، وتمثل تلك المطالبات اختباراً حقيقياً لطريقة إدارة الصين لدورها في مواجهة تداعيات أزمة كورونا ولتصورها لدورها في النظام العالمي ما بعد الكورونا، إذ سيكون عليها معالجة تعثرات شركائها التجاريين والدول المدينة لها. الصين مطالبة بإثبات قدرتها على التعامل مع أزمة تفاقم الديون الإفريقية في ظل أزمة وبائية عالمية وتوقعات بتباطؤ شديد لنمو معظم الدول الإفريقية جنوب الصحراء، مع ذلك يتوقع أن تخرج الصين من الأزمة بعلاقات أقوى مع دول إفريقيا سواء عبر دبلوماسية «فخ الديون» التي ستتزايد الحاجة الإفريقية إليها أو بدبلوماسية الكمامات التي أجادتها بكين بشكل كبير، وإن بقيت المعضلة الثقافية عائقاً أمام تغلغلها أكثر في القارة الإفريقية وبلدان عدة لكن يظل الاقتصاد عاملاً أكثر حسماً في تحديد مناطق النفوذ والسيطرة في عالم ما بعد القطبية الأحادية الذي تعيد تشكيله الصين وحلفاؤها.
المعضلات الذاتية للاقتصاد
الأميركي وتزايد التحديات الخارجية
تعاني الولايات المتحدة الأميركية من أزمة مالية طاحنة منذ أكثر من عقد، إذ لم يتخلص اقتصادها من تبعات أزمة الرهن العقاري عام 2008 بعد. ويضاف لتلك الأزمة مجموعة من الأزمات الداخلية التي سببها وباء كورونا من تباطؤ الاقتصاد العالمي وتدهور الفرص الاقتصادية التي حاولت خلقها بتحقيق اكتفاء من النفط الصخري والتوجه لتصديره في وقت انهارت أسعاره لأقل بكثير من سعر تكلفته أثناء الأزمة. تلك الإشكالات عززت من أهمية تفعيل استراتيجيات لمواجهة الصين، فمن تبعات تلك الأزمة سلسلة من التقليصات للإنفاق العام ومن ضمنها تقليص ميزانية وزارة الدفاع الأميركية اتفق عليه في العام 2011 وبدأ تنفيذها منذ العام 2013 بخصم ما قيمته 46 مليار دولار سنوياً من ميزانية وزارة الدفاع لتستمر بعده سلسلة التقلصات لعشر سنوات لاحقة تنتهي في 2023، وقد لا تنتهي في ذلك التوقيت بسبب تداعيات كورونا مما يؤثر في جاهزية القوات العسكرية الأميركية وقدرتها.
إن المسألة ليست مرتبطة بفلسفة أوباما وترامب والإدارات الأميركية المتعاقبة فحسب، بقدر ما هي مرتبطة أيضاً بإمكانات الولايات المتحدة الأميركية وقدراتها اقتصادياً وعسكرياً، وكثرة التحديات التي تواجهها سياستها الخارجية.
وفي هذا السياق، فإن الصين تبدو المستفيد الأكبر من المعاناة الأميركية، إذ إنها المستثمر الأكبر في أدوات الدين الأميركية وتوجه انتقادات حادة للسياسات الأميركية وتصف تعامل واشنطن مع أزمة الديون بأنه غير مسؤول وغير أخلاقي. واتهمت الصحافة الصينية السياسيين الأميركيين بالتضحية بمصالح الشعوب الأخرى في سبيل حفنة من الأصوات، في حين استغل رئيس الوزراء الروسي حينها فلاديمير بوتين الأزمة، واصفاً واشنطن بأنها تتطفل على الاقتصاد العالمي وتعيش على الديون وليس على قدراتها الاقتصادية. صحيح أن الاقتصاد الأميركي وجد مخرجاً للعديد من معضلاته في الصفقات الضخمة وغير المسبوقة التي وقعها ترامب مع حكام الخليج في مايو من العام 2017، وصحيح أن شركات التكنولوجيا الأميركية كانت المستفيد الأكبر من أزمة كورونا وقفزت قيمها السوقية وأرباحها كثيراً، وبينما تحدثت تقارير عن تجاوز الناتج القومي الإجمالي للصين نظيره الأميركي بمعيار تعادل القوة الشرائية، فإن التقارير الأكثر تفاؤلاً بمستقبل الولايات المتحدة تتحدث عن تجاوزه بحلول 2028. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بمستوى دخل للفرد يبلغ ستة أضعاف نظيره في الصين، لكن القطاعات الإنتاجية في الصين كانت المستفيد الأكبر كما أن الصين عززت نفوذها عبر ما يعرف بدبلوماسية الكمامات، إذ بينما كانت الولايات المتحدة منشغلة تماماً بالأزمة الطاحنة المتعلقة بالتعامل الداخلي مع الانتشار الأكبر للفيروس في العالم. وقامت الصين بتقديم مئات الآلاف من أطنان المستلزمات الطبية إلى العديد من البلدان حول العالم سواء لتحسين صورتها أو للترويج لقدراتها في المجال الطبي وإثبات كونها نموذجاً غير غربي ناجحاً للسيطرة على الوباء.
ورغم فرض ترامب العديد من القيود على الواردات الصينية حد الخوض في حرب تجارية معها، فإنها وفقاً لتحليلات خسرت حربها الاقتصادية مع الصين، إذ رفعت قيمة السلع الصينية كثيراً، إلا أن عجز الميزان التجاري مع الصين قد تزايد، وتزايدت قدرة الصين على فرض عقوبات مماثلة، ففي سبتمبر عندما 2019 قامت إدارة ترامب بزيادة التعريفات الجمركية على واردات صينية بقيمة 125 مليار دولار أميركي، مما دفع الصين إلى الرد بفرض تعريفات جمركية على واردات أميركية بقيمة 75 مليار دولار أميركي، لاحقاً في ديسمبر من العام نفسه ارتفع إجمالي قيمة السلع الصينية الخاضعة للتعريفات الجمركية العقابية إلى قرابة نصف تريليون دولار أميركي، كان ترامب يعتقد أن التعريفات الجمركية ستكون كفيلة بتركيع الصين وتغيير ما يزعم أنها ممارسات تجارية غير عادلة للولايات المتحدة، مع ذلك تحملت السوق الأميركية كلفة ارتفاع أسعار الواردات الصينية، كما أن التعريفات الجمركية ضربت المستهلك الأميركي بدرجة أكبر من نظيره الصيني، وعرضت الاقتصاد الأميركي للخطر وهددت التجارة الدولية وأخفقت في تخفيض العجز.
ومع ذلك، فإن الأزمة قادت لسلسلة من الاحتجاج على السياسات الاقتصادية لإدارة ترامب ومن ثمت معاقبته واليمين المؤيد له بانتخاب بايدن، والذي وقّع وفقاً لتقارير ترجح عدم القدرة على تخفيض ميزانية الدفاع، على خطة للإغاثة بقيمة 1.9 تريليون دولار، بهدف تحفيز الاقتصاد الأميركي، يحاول الدفع بخطة جديدة للوظائف الأميركية، تبلغ قيمتها تريليوني دولار لإعادة بناء البنية التحتية في البلاد. كما أنه يتعهد بمتابعة تلك الخطط جنباً إلى جنب مع خطة العائلات الأميركية المعنية بتحسين الرعاية الصحية، ورعاية الأطفال، والتعليم، والتي قد تكلف عدة مليارات، أو ربما تريليونات من الدولارات، ما يثير حفيظة المجمع الصناعي العسكري الأميركي ومقاولي الدفاع واللوبي التابع لهم والذي يضم الكثيرين من الخبراء المقربين من إدارة بايدن والقادرين على ضمان عدم تقليص ميزانية وزارة الدفاع.
لكن هذه الخطط الطموحة للإنفاق العام الكبير لتعويض الخسائر الناجمة عن أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية تقتضي مزيداً من الاستدانة، ومن ثم مزيداً من حساسية الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية للدائنين والشركاء الأوروبيين وحلفائها في الشرق الأوسط وفي المحيط الهادئ وآسيا على السواء.
وعلى الرغم من ارتفاع درجة الاستقطاب في النظام السياسي الأميركي حالياً بصورة غير مسبوقة، فإن هناك قدراً لا بأس به من الإجماع على ضرورة مواجهة سياسات الصين بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل ربما يكون هذا هو الملف الوحيد الذي يحظى بنسبة تأييد عالية لدى كلا الفريقين سواء بسبب تداعيات كورونا أو بسبب حسم الجدل الممتد لقرابة عقدين حول الصعود الصيني والقلق بشأن قدرة الولايات المتحدة على مجابهته.
خاتمة
في التحليل الأخير، يبقى الاقتصاد الأميركي واقتصاد الشركاء الأوروبيين في حاجة ماسة للاقتصاد الصيني رغم محاولات إعادة السياسات الحمائية بشكل كبير، كما أن مكونات الثورة الجديدة في مجال الاقتصاد الرقمي جعلت من المستحيل أن تكون هناك فواصل بين الداخلي والخارجي حيث هناك اتجاه تجاري باحث عن الفرص والأرباح يتجه نحو الصين والهند والبلدان ذات العمالة والموارد الخام الرخيصة لتركيز أنشطته فيها، وعلى الرغم من أن مراكز العديد من هذه الشركات تقع في الولايات المتحدة وشركائها من الدول الأوروبية فإن العديد منها يملكها صينيون وتنتقل أسهمها بين بورصات العالم.
تبدو السياسة الخارجية الأميركية اليوم أكثر بحثاً عن شركاء لتحمل أعباء قيادة وتسيير النظام الدولي بدلاً من أن تتحملها وحدها، وهذا ما يفسر التحالفات التي تحاول إنشاءها في مواجهة الصين أو تفويضها لتركيا في مسألة حفظ الأمن في بعض المرافق في أفغانستان عقب الانسحاب الأميركي منها أو ما اتخذته سابقاً من سياسات للتعامل مع التحديات في الشرق الأوسط في ظل إدارة ترامب من تحميل الشركاء للتكلفة المباشرة لتواجد القوات الأميركية أو للعمليات التي تقوم بها الولايات المتحدة وشركاؤها بعد الانسحاب من المنطقة.
وتبقى القدرات الصينية على المراوغة واستغلال الأوضاع والتطورات الداخلية في الولايات المتحدة ومناطق نفوذها، عالية وتتميز بانخفاض تكلفة سياساتها الخارجية والتي تنفذها أحياناً عبر شركاء كروسيا وإيران أو بشكل مباشر بأدوات اقتصادية فعالة وشديدة القدرة على خلق شركاء وتبعيات جديدة بصفقات كبرى للسيطرة على الموانئ والبنى التحتية في الدول النامية.