+ A
A -
بعد أن عاد عَمُّ أُمِّي وأبي من رحلة الحج حصلتُ على نصيبي من التمر وماء زمزم. أعرف مسبقا أن «ماء زمزم لما شُرِبَ له»، وأعرف أن الدعاءَ المصاحب للتمرة تُفْتَح له أبواب السماء، لذلك كانت سهرتي يوم السبت مع تمرة وماء.
وضعْتُ قُبالَتي فنجانَ ماء زمزم وتمرةً، وشرعتُ أدعو الله ليستجيب لي، ولي ما يستحق أن أَحْمِلَ هَمَّه في هذا الكوكب العائمة فيه أحزاني. رفعتُ يديّ إلى الله، وقُدّامي مائي وتمرتي، وكانت فاتحةُ الدعاء أن يحفظ الله لي مَن أُحِبّ، والله أعلم بمَن أُحِبّ أكثر ممن أُحِبّ، وأن يُعَظِّمَ في قلبي مقام مَن أُحِبّ، وأن يجعلني قُرَّةَ عين مَن أُحِبّ..
أنهيتُ دعائي مع مشارف الفجر، وما هي إلا ساعات نومٍ تُعَدُّ على أَقَلّ من رؤوس أصابع اليَدِ الواحدة حتى صَعَقَتْني حرارةُ الصدمة في أكثر من احتمالٍ يجعلني مهدَّدةً بتقطُّع حبلي عمَّن أُعَلِّقُ عليهم قميصَ حياتي البائس.
عندما تُفَكِّرُ مجرد تفكير في أنك قد تَرْحَلُ عن أراضي من تُحبُّ تشعر بأنك تفقد توازنَك وتكاد تَخِرُّ ساقاك. لا تَجِدُ أمامَك إلا حَمَّام الدموع الساخن الذي ترتمي فيه عاريا إلا من نِيَةِ البَوْحِ بلسانها (دموعك) عمّا يَكسر روحَك ويَكسر بالمثلِ قارورةَ عِطْرِ الحُبّ التي جاءتك من مكان أقرب من أهداب العين..
الانتظارُ سِكّين، والقلبُ المسكين تُرَبّيه أنتَ على الانتظار، انتظار طائر الفَرَح المسافر، أو تَرَقُّب قرار الإعدام، إعدام القلب الميت بفراقك لِمَن تُحِبّ، ولا عِلم لمن تُحِبّ بتكلفة هذا الفراق الْمُرّ الذي تتجرعه أنتَ وأنتَ تَكتبُ بابتسامتك الدافئة كلمةً طيبةً على صفحة مُحَيَّاك حتى لا تَجْرَحَ مَن تُحِبّ، حتى لا تَكسرَ مَن تُحِبّ، حتى لا تخدشَ مرآةَ براءةِ مَن تُحِبّ، حتى لا تَحْرِمَ مَن تُحِبُّ من طفولةٍ حالتْ بينها وبين مَن تُحِبّ قيودٌ وأصفاد وسلاسل..
في دين القبيلة، أن تحيا الطفولةَ كُفْر، وأن تنقاد لغيركَ سِحر (بالمفهوم السلبي للكلمة)، وأن تَحْلُم عَهْر، وأن تموتَ حسرةً وكمداً طُهْر. في دين القبيلة، المرأة ذيلُ الرجلِ وحذاؤه، وبقاؤها دون رَجُلٍ عُرْي. في دين القبيلة الدفاعُ عن حقك في أن تنبضَ تمرُّد، كما أن بعثَك لزمن الطفولة جريمة.
طفولتُك المسروقة، طفولتُك المصلوبة على سدرة الشوك، تحنّ إليها حنينَك إلى مَن تُحِبّ، وَلا يدري مَن تُحبُّ بِـ «كَم تُحِبّ». تُبْحِر ضد التيار، تنكسر الأوتار، ويضيع عزفُ جوقة عصافير القلب التي يجهل مَن تُحِبُّ حالَ جوّها.
ما أسوأَ أن يَستكثرَ عليك الزمنُ كِسْرَةً من رغيف الحُبّ تُجَدِّدُ مُضيَّ الحياة في أوصالك التي تتمزَّق حرقةً على غياب الحُبّ، الحُبّ الذي يُجَرِّدُك الزمنُ من حقيبته، الحُبّ الذي يُجْبِرُك الزمنُ على دَفْنِ جُثَّته ورقةً ورقةً، الحُبُّ الذي لا يَسْقُط سَقْفُه مع أول ضَرْبَة رعدٍ ولا تتداعى جُدرانُه من أول هَزَّة أرضٍ ولا يتبخَّر ماؤه مع أول طلوع شمسٍ تَعُدُّ على البحرِ أنفاسَه وترشقُه بأطنان الملح..
الحُبُّ دِين وأخلاق وغريزة تُضاهي غريزةَ حُبّ البقاء.. بدون حُبٍّ تَيبسُ عروقُك وتتجمدُ دماؤك، تنكمش كاللباس المهلهَل، كالبالونة المفرَغة من الهواء، وأنتَ كُنْتَ الهواءَ والهوى.
بعد أن يغيبَ مَن أُحِبُّ لن يظلّ أمامي سوى القطة الشقية، تَغيب تَغيب، ثم تتسلل إلى غرفتي لِتَنْدَسَّ بين الأوراق المكوَّمة على الملاءة ومحتويات حقيبة اليد وسط السرير الواسع، تُعَمِّرُ سريري مستلقية كملاكٍ، أعرف كيف أعود بها إلى غرفتها الصغيرة في الحديقة الأمامية، ولا أعرِفُ أنها تقوم بما تقوم به حتى أستشعِرَ بعض الدفء الذي ضَلَلْتُ عُنوانَه تحت التهديد بمَغيب شمس مَن أُحِبّ.
«ماء زمزم لما شُرِبَ له»، والتمرة لا ننسى التمرة، وأنا أمضيتُ ثُلُثَ الليل أسألُ الله طمعاً في كِسْرَةِ حُبٍّ أَتَّخِذُها زادا لِأُكْمِلَ طريقَ العُمر الموحش إن كان مازال في الطريقِ طريق. يا اللهُ استجب لي؟!

بقلم : د.سعاد درير
copy short url   نسخ
29/09/2016
1697