يترقب المجتمع القطري بكل أطيافه، والرأي العام الخارجي بجميع مكوناته، خطابات حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ليستلهم منها اتجاهات السياسة الوطنية ورؤية القيادة في القضايا المصيرية، وخطط الدولة في النهضة الاقتصادية وكذلك في مختلف الأحداث المحلية والخارجية.
كما أن سموه، حفظه الله، عوّدنا على أن يكون خطابه واضحاً ومباشراً، ويتصف بالشفافية في معلوماته وانطباعاته وبالجرأة في آرائه وتحليلاته.. مما يضع المتابع في صورة الموقف العام من مختلف القضايا على كافة الأصعدة.
ولقد استأثرالشأن المحلي، والاقتصادي منه خاصة، بالخطاب في هذا العام، وذلك بمناسبة افتتاح دور الانعقاد العادي الثاني من الفصل التشريعي الأول، الموافق لدور الانعقاد السنوي الحادي والخمسين لمجلس الشورى، بقاعة تميم بن حمد، بمقر المجلس، صباح أمس.
وكذلك كان لكأس العالم واستضافته لأول مرة في التاريخ بدولة عربية، ممثلاً في دولة قطر، التي تترقب ساعة الصفر، مساحة هامة من خطاب سموه، حيث أكد مجددا على الترحيب بكل القادمين لهذا الحدث واستعداد الدولة والشعب للتصدي لهذه المهمة، ومواجهة الحملات المغرضة بتنظيم غير مسبوق يجعل العالم يكتشف إمكانيات قطر وقدرتها على كسب التحدي.
وقد أوضح صاحب السمو أن قطر كانت في مقدمة الدول التي نجحت، بما اتخذته من إجراءات على المستوى الوطني في التعامل مع تلك الآثار السلبية والتخفيف منها، ليس على المستوى الحكومي والقطاع العام فحسب، بل أيضاً على مستوى إيلاء الاهتمام للقطاع الخاص، حيث واصل الاقتصاد القطري النمو خلال العام الجاري، بعد التراجع الذي حدث عام «2020»، وتشير البيانات الأولية إلى نمو الناتج المحلي خلال النصف الأول من العام بنسبة «4.3 %» مدعوماً بنمو القطاع غير النفطي بنسبة «7.3 %»، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق.
وللمقارنة فحسب، من أجل الوقوف على مدى استقرار اقتصادنا وقوته، على الرغم من الآثار الاقتصادية السلبية التي ألحقتها جائحة كورونا باقتصاديات الدول والأزمة الروسية الأوكرانية، فإن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي بلغت «0.6 %»، وفي منطقة اليورو وصلت إلى «0.7 %» خلال الربع الثاني من العام الحالي، مقارنة بالربع الأول، حسب البيانات التي أعدها مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي «يوروستات»، في حين أبقى أحدث تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، بعنوان «آفاق الاقتصاد العالمي»، على توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي للعام «2022» دون تغيير عند نسبة «3.2 %»، كما قام بخفض توقعات النمو للعام «2023» بمقدار «20» نقطة أساس لتصل إلى «2.7 %».
توقف صاحب السمو في خطابه الهام والشامل أمام معدل التضخم في قطر والذي بلغ «4.6 %» فقط في النصف الأول من العام، موضحا في هذا الصدد أنه أقل من معدلات التضخم التي نشاهدها اليوم في العديد من الدول المتقدمة.
وللمقارنة أيضا فإن معدل التضخم في منطقة اليورو بلغ خلال شهر سبتمبر االماضي «10 %»، وهو أعلى مستوى له في تاريخ العملة الأوروبية الموحدة، وفقًا لآخر تقدير من «يوروستات».
إن معدل التضخم الأقل في قطر، لم يكن كافيا للقبول به، حيث حرصت الدولة، كما أوضح صاحب السمو، على اتخاذ العديد من الإجراءات اللازمة للحد من التضخم، ومنها ضمان توفير السلع الأساسية كالمواد الغذائية، ومراقبة الأسعار.
الحفاظ على الموارد
ليس هذا فحسب، بل إن قطر تبوأت، مركزاً عالمياً متقدماً على مستوى الأمن الغذائي العالمي، وذلك نتيجة لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي من خلال العديد من المشروعات الإنتاجية الاستراتيجية، كما أوضح سمو أمير البلاد المفدى، بالإضافة إلى الحفاظ على الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة، عبر اعتماد البرنامج الوطني المتكامل لاستدامة الموارد وإعادة تدوير النفايات وإنشاء محطات لمعالجتها وتحويلها إلى طاقة، والارتقاء بجودة الحياة في المدن لتصبح دولة قطر أول دولة في العالم تحصل جميع مدنها على اعتماد من منظمة الصحة العالمية كمدن صحية.
ما سمعناه يثلج الصدر، ويؤكد مرة أخرى أن قطر ماضية على الطريق الصحيح، بفضل قيادة آلت على نفسها أن تجعل هذا الوطن نموذجا للاستقرار والأمن والرفاه على كافة الصعد، وفي كل المجالات، ولم يكن من قبيل المصادفة على الإطلاق أن يتحول عجز الموازنة المتوقع في بداية العام إلى فائض بنحو «47.3» مليار ريال في النصف الأول من العام، سيتم توجيهه كما أوضح صاحب السمو إلى خفض مستوى الدين العام، وزيادة الاحتياطات المالية للدولة.
صحيح أن الارتفاع في أسعار الطاقة أدى إلى هذا التحول الإيجابي، لكن ما هو صحيح أيضا أن سياسات قيادتنا الرشيدة وحسن إدارتها للثروة الوطنية، كان لها الأثر الأكيد والكبير، ومن ذلك ما تقوم به «قطر للطاقة» على صعيد توسيع نطاق عملياتها في ست عشرة دولة حول العالم بالشراكة مع عدد من كبريات الشركات العالمية، والشروع في توسعة إنتاج الغاز في حقل الشمال، وهو من أهم المشاريع الاستراتيجية التي تدعم اقتصادنا والمالية العامة للدولة على المدى الطويل.
وقد جاء افتتاح مشروع الخرسعة للطاقة الشمسية الذي يلبي «10 %» من استهلاك قطر للكهرباء، ليضيف بعدا جديدا لجهود قطر في مجال الإسهام في توليد الطاقة المتجددة.
تنظيم الأجهزة الحكومية
النقطة الهامة الأخرى التي تناولها صاحب السمو في خطابه أمام مجلس الشورى، إعادة تنظيم الأجهزة الحكومية والهيئات والمؤسسات والشركات العامة لزيادة كفاءتها وتوافقها مع متطلبات العصر، والتوسع في استخدام الأنظمة الإلكترونية لضمان نجاعة الأداء الحكومي وتنفيذ الخطط التنموية بالكفاءة والسرعة اللازمتين والتيسير على المواطنين في الأنشطة والخدمات، بالإضافة إلى النهضة التشريعية التي استكملت بموجبها قوانين أساسية تنظم مختلف أوجه الحياة والمعاملات في الدولة.
تحقيق العدالة الناجزة
أيضا، فإن تطوير أنظمة العدالة هو في مقدمة الأولويات، وكما أوضح سموه، حفظه الله، فإن تطوير هذه الأنظمة هدفه «تحقيق العدالة الناجزة التي لا غنى عنها لاستقرار المعاملات، وكفالة الحقوق، فالعدالة البطيئة، كما ذكرت سابقاً في هذا المجلس الموقر، هي نوع من الظلم»، وفي هذا الصدد أشار سموه إلى حزمة من التشريعات الهامة، من بينها قانون التنفيذ القضائي، وقانون المرافعات المدنية والتجارية وقانون الإجراءات الجنائية وقانون السلطة القضائية وقانون النيابة العامة والتي ستحال إلى مجلس الشورى تباعا.
التطلع نحو المستقبل
إن ما تحقق كبير ومهم واستثنائي، لكن قطر لم تتوقف يوما عن التطور والنماء، وقد أشار إلى ذلك صاحب السمو في معرض حديثه عن إنجاز مشاريع البنية التحتية الاستراتيجية المرتبطة بالخطة العمرانية خلال السنوات الماضية، مؤكدا أنه «أمامنا عمل كثير على مستوى المشروعات الاقتصادية التي تلائم دولة قطر وتمنحها ميزةً، وسوف تعمل الدولة على تركيز الإنفاق العام على مشاريع وبرامج استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة، ودعم القطاعات الحيوية ذات العائد الاقتصادي الأعلى، بالإضافة إلى الاستثمار في تحسين البنية التحتية، كما سوف نعمل على تنويع مصادر الإيرادات العامة لتحقيق الاستدامة المالية حتى لا تبقى الموازنة العامة عرضة لمخاطر تقلبات أسعار الطاقة».
بناء الإنسان
لطالما كان الإنسان الهدف والغاية في جميع خطابات صاحب السمو، وأمام مجلس الشورى بالأمس، أكد سموه، حفظه الله، مجددا أن المهمة الرئيسة تبقى هي العمل على بناء الإنسان، المواطن المسؤول القادر على أن يكون ركيزةً لهذا كله، والذي يعرف واجباته الوطنية وحقوقه، ويعرف قيمة ما لديه، ويتطلع إلى ما يتجاوز القيم المادية الاستهلاكية، ويقدم الجوهر على المظهر، ويفهم أن الدين أخلاق قبل كل شيء.
كأس العالم
بدأ صاحب السمو خطابه بالإشارة إلى أن انعقاد مجلس الشورى «يأتي في ظل انشغال الدولة والشعب في التحضير لاستضافة حدث تاريخي يشكل أحد أهم مشاريعنا الوطنية، وهو كأس العالم، ويظهر الاهتمام العالمي بهذه المناسبة وبالبلد المضيف مدى أهمية هذا الحدث لبلادنا، إنه أهم حدث رياضي، ولكنه ليس حدثاً رياضياً فقط، بل هو مناسبة إنسانية كبرى». واختتم سموه الخطاب بالحديث عن حملة غير مسبوقة تعرضت لها قطر منذ أن نلنا شرف استضافة كأس العالم، وقال: «تعاملنا مع الأمر بدايةً بحسن نية، بل واعتبرنا أن بعض النقد إيجابي ومفيد، يساعدنا على تطوير جوانب لدينا تحتاج إلى تطوير، ولكن ما لبث أن تبين لنا أن الحملة تتواصل وتتسع وتتضمن افتراءات وازدواجية معايير حتى بلغت من الضراوة مبلغاً جعل العديد يتساءلون للأسف عن الأسباب والدوافع الحقيقية من وراء هذه الحملة».
وفي الواقع فإن هذه الحملة أخذت أبعادا شتى من الافتراءات، وهي ما زالت مستمرة، ونحن على بعد أقل من شهر على انطلاق هذه البطولة.
قبل أيام كشف رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني انفانتينو عن جهوزية قطر لاستضافة «كأس العالم 2022» وقال: «عندما نرى الملاعب والمترو والبنية التحتية سنقول كل شيء جاهز للترحيب بالجميع». وأضاف: «قطر ستنظم أفضل نسخة للمونديال في التاريخ».
لذلك يبدو غريبا، بل يبدو مستهجنا للغاية أن تستمر الحملة المعادية لاستضافة قطر لهذه البطولة، التي ستكون الأفضل على مر التاريخ، بشهادات الـ «فيفا» ومجتمع كرة القدم في العالم بأسره، خاصة فيما يتعلق بحقوق العمال، وفي ذلك نكتفي بثناء أعضاء مجلس إدارة منظمة العمل الدولية من حكومات وأصحاب أعمال على الإجراءات والقوانين والتشريعات التي أصدرتها قطر في هذا الشأن، والتي اعتبروها نموذجا يحتذى به في المنطقة.
لقد أوضح صاحب السمو في خطابه أن «استضافة كأس العالم تجمع بين عناصر عدة من مكونات المصداقية والقدرة على التأثير الإيجابي، وذلك بقبول التحدي وإدماجه ضمن مشاريعنا الوطنية وخطط التنمية، وأيضاً على مستوى القدرات الاقتصادية والأمنية والإدارية، وعلى مستوى الانفتاح الحضاري والثقافي.. إنها باختصار مناسبة نظهر فيها «من نحن» ليس فقط لناحية قوة اقتصادنا ومؤسساتنا، بل أيضاً على مستوى هويتنا الحضارية».
هذا امتحان كبير لدولة بحجم قطر، التي تثير إعجاب العالم أجمع بما حققته وتحققه، وكما قال صاحب السمو: «لقد قبلنا هذا التحدي إيماناً بقدرتنا، نحن القطريين، على التصدي للمهمة وإنجاحها، وإدراكاً منا لأهمية استضافة حدث كبير مثل كأس العالم في الوطن العربي».
وكما قال صاحب السمو، عبر حسابه الرسمي على موقع «تويتر» فإن: استضافتنا لكأس العالم تظل عنوانا يكتشف العالم من خلاله قطر والعرب، وهذا بالتأكيد سيكون الرد الأهم على كل حملات التحريض والكراهية التي استهدفت بلدنا الحبيب.
ركائز السياسة الخارجية
المحور المهم الآخر في الخطاب السامي، تمثل في التأكيد على استمرار أن سياسة قطر الخارجية والنهج الذي اتبعته على الدوام، والقائم على الالتزام بالقانون الدولي، وحماية المكتسبات الوطنية، وانتهاج الدبلوماسية الوقائية في نزع فتيل الأزمات قبل استفحالها، مشيرا في هذا الصدد إلى أن «ما حققناه من نتائج إيجابية يحتم علينا أن يكون دورنا فاعلاً ومسؤولاً في منطقتنا وعلى مستوى العالم»، على اعتبار أن الالتزام بهذه المبادئ وتطبيقها، جعل من قطر شريكاً يعتد به في صناعة السلام ودعم الاستقرار.
خطاب صاحب السمو أمام مجلس الشورى خريطة طريق للمستقبل، أساسها العمل والأمل، بمستقبل يحقق لوطننا وشعبنا ما نتطلع إليه جميعا من أمن وأمان واستقرار ورخاء، وهو ما ننعم به بفضل الله، ثم بفضل قيادة رشيدة آلت على نفسها أن تجعل من قطر مثالا يحتذى في كل مجال.